{ لَتَرْكَبُنَّ } [ أي : ] أيها الناس { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أي : أطوارا متعددة وأحوالا متباينة ، من النطفة إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى نفخ الروح ، ثم يكون وليدًا وطفلًا ، ثم مميزًا ، ثم يجري عليه قلم التكليف ، والأمر والنهي ، ثم يموت بعد ذلك ، ثم يبعث ويجازى بأعماله ، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد ، دالة على أن الله وحده هو المعبود ، الموحد ، المدبر لعباده بحكمته ورحمته ، وأن العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم ،
وقوله - سبحانه - { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } جواب القسم - كما سبق أن أشرنا - .
والمراد بالركوب : الملاقاة والمعاناة ، والخطاب للناس ، والطبق جمع طبقة ، وهى الشئ المساوى لشئ آخر ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والمراد بها هنا : الحالة أو المرتبة ، وعن بمعنى بعد .
أى : وحق الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . . لتلاقن - أيها الناس - أحوالا بعد أحوال ، هى طبقات ومراتب فى الشدة ، بعضها أصعب من بعض ، وهى الموت ، وما يكون بعده من حساب وجزاء يوم القيامة .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } خطاب لجنس الإِنسان المنادى أولا ، باعتبار شموله لأفراده ، والمراد بالركوب : الملاقاة ، والطبق فى الأصل ما طابق غيره مطلقا .
وخص فى العرف بالحال المطابقة لغيرها . . و " عن " للمجاوزة ، أو بمعنى " بعد " والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة أو حالا من فاعل لتركبن ، والظاهر أن " طبقا " منصوب على المفعولية ، أى : لتلاقن حالا كائنة بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها فى الشدة والهول . . منها ما هو فى الدنيا ، ومنها ما هو فى الآخرة .
وقرأ الأخوان - حمزة الكسوائى - وابن كثير { لتركبن } بفتح الباء - على أنه خطاب للإِنسان - أيضا - ، ولكن باعتبار اللفظ ، لا باعتبار الشمول .
وأخرج البخارى عن ابن عباس أنه خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ، أى : لتركبن - أيها الرسول الكريم - أحوال شريفة بعد أخرى من مراتب القرب . أو مراتب من الشدة بعد مراتب من الشدة ، ثم تكون العاقبة لك . .
( لتركبن طبقا عن طبق ) . . أي لتعانون حالا بعد حال ، وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : " إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه " . . وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة ، مقدرة كذلك مرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق ، والليل وما وسق ، والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم ، الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة ، والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى ، ومن جولة إلى جولة ، هو سمة من سمات هذا القرآن البديع .
وقوله : لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأه عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه ، وابن عباس وعامة قرّاء مكة والكوفة : «لَترْكَبَنّ » بفتح التاء والباء . واختلف قارئو ذلك كذلك في معناه ، فقال بعضهم : لتركَبنّ يا محمد أنت حالاً بعد حال ، وأمرا بعد أمر من الشدائد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، أن ابن عباس كان يقرأ : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن رجل حدّثه ، عن ابن عباس في «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : منزلاً بعد منزل .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يقول : حالاً بعد حال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يعني : منزلاً بعد منزل ، ويقال : أمرا بعد أمر ، وحالاً بعد حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت مجاهدا ، عن ابن عباس «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرِمة في قوله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هَوْذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سأل حفص الحسن عن قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : منزلاً عن منزل ، وحالاً عن حال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شريك ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت مرّة عن قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد «لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً بعد حال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : حالاً عن حال .
قال : ثنا وكيع ، عن نصر ، عن عكرِمة ، قال : حالاً بعد حال .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : لتركبَنّ الأمور حالاً بعد حال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » يقول : حالاً بعد حال ، ومنزلاً عن منزل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : «لتَرْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » منزلاً بعد منزل ، وحالاً بعد حال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أمرا بعد أمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أمرا بعد أمر .
وقال آخرون ممن قرأ هذه المقالة ، وقرأ هذه القراءة عُنِي بذلك : لتركبنّ أنت يا محمد سماء بعد سماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الحسن وأبو العالية «لَترْكَبَنّ » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم طَبَقا عنْ طَبَقٍ السموات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي الضحى ، عن مسروق «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : أنت يا محمد سماء عن سماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، قال : سماء بعد سماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : سماء فوق سماء .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لتركَبُنّ الاَخرة بعد الأولى . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : الاَخرة بعد الأولى .
وقال آخرون ممن قرأ هذه القراءة : إنما عُنِي بذلك أنها تتغير ضروبا من التغيير ، وتُشَقّقُ بالغمام مرّة ، وتحمرّ أخرى ، فتصير وَرْدة كالدهان ، وتكون أخرى كالمهل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن قيس بن وهب ، عن مرّة ، عن ابن مسعود «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء مرّة كالدّهان ، ومرّة تَشَقّق .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : سمعت أبا الزرقاء الهَمْداني ، وليس بأبي الزرقاء الذي يحدّث في المسح على الجوربين ، قال : سمعت مُرّة الهمداني ، قال : سمعت عبد الله يقول في هذه الاَية : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء .
حدثني عليّ بن سعيد الكندىّ ، قال : حدثنا عليّ بن غراب ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء تغبرّ وتحمرّ وتَشَقّق .
حدثنا أبو السائب ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، في قوله : «لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء تَشَقّق ، ثم تحمرّ ، ثم تنفطر قال : وقال ابن عباس : حالاً بعد حال .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : قرأ عبد الله هذا الحرف : «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : السماء حالاً بعد حال ، ومنزلة بعد منزلة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله «لَترْكَبَنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ » قال : هي السماء .
حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي فروة ، عن مرّة ، عن ابن مسعود أنه قرأها نصبا ، قال : هي السماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : هي السماء تغير لونا بعد لون .
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين : لَترْكَبُنّ بالتاء ، وبضمّ الياء ، على وجه الخطاب للناس كافة ، أنهم يركبون أحوال الشدة حالاً بعد حال . وقد ذكر بعضهم أنه قرأ ذلك بالياء ، وبضم الباء ، على وجه الخبر عن الناس كافة ، أنهم يفعلون ذلك .
وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب : قراءة من قرأ بالتاء وبفتح الباء ، لأن تأويل أهل التأويل من جميعهم بذلك ورد وإن كان للقراءات الأُخَر وجوه مفهومة . وإذا كان الصواب من القراءة في ذلك ما ذكرنا ، فالصواب من التأويل قول من قال : «لَترْكَبَنّ » أنت يا محمد حالاً بعد حال ، وأمرا بعد أمر من الشدائد . والمراد بذلك ، وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موجها ، جميع الناس ، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً .
وإنما قلنا : عُنِي بذلك ما ذكرنا ، أن الكلام قبل قوله : لَترْكَبُنّ طَبَقا عَنْ طَبَقٍ جرى بخطاب الجميع ، وكذلك بعده ، فكان أشبه أن يكون ذلك نظير ما قبله وما بعده .
وقوله : طَبَقا عَنْ طَبَقٍ من قول العرب : وقع فُلان في بنات طَبَق : إذا وقع في أمر شديد .