{ 11 - 26 } { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم } إلى آخر الآيات
وهو قوله : { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لما ذكر فيما تقدم ، تعظيم الرمي بالزنا عموما ، صار ذلك كأنه مقدمة لهذه القصة ، التي وقعت على أشرف النساء ، أم المؤمنين رضي الله عنها ، وهذه الآيات ، نزلت في قصة الإفك المشهورة ، الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد .
وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، في بعض غزواته ، ومعه زوجته عائشة الصديقة بنت الصديق ، فانقطع عقدها فانحبست في طلبه ورحلوا جملها وهودجها ، فلم يفقدوها ، ثم استقل الجيش راحلا ، وجاءت مكانهم ، وعلمت أنهم إذا فقدوها ، رجعوا إليها فاستمروا في مسيرهم ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ، من أفاضل الصحابة رضي الله عنه ، قد عرس في أخريات القوم ونام ، فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها ، فأناخ راحلته ، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه ، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة ، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال ، أشاع ما أشاع ، ووشى الحديث ، وتلقفته الألسن ، حتى اغتر بذلك بعض المؤمنين ، وصاروا يتناقلون هذا الكلام ، وانحبس الوحي مدة طويلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وبلغ الخبر عائشة بعد ذلك بمدة ، فحزنت حزنا شديدا ، فأنزل الله تعالى براءتها في هذه الآيات ، ووعظ الله المؤمنين ، وأعظم ذلك ، ووصاهم بالوصايا النافعة . فقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ } أي : الكذب الشنيع ، وهو رمي أم المؤمنين { عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } أي : جماعة منتسبون إليكم يا معشر المؤمنين ، منهم المؤمن الصادق [ في إيمانه ولكنه اغتر بترويج المنافقين ]{[559]} ومنهم المنافق .
{ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لما تضمن ذلك تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها ، والتنويه بذكرها ، حتى تناول عموم المدح سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما تضمن من بيان الآيات المضطر إليها العباد ، التي ما زال العمل بها إلى يوم القيامة ، فكل هذا خير عظيم ، لولا مقالة أهل الإفك لم يحصل ذلك ، وإذا أراد الله أمرا جعل له سببا ، ولذلك جعل الخطاب عاما مع المؤمنين كلهم ، وأخبر أن قدح بعضهم ببعض كقدح في أنفسهم ، ففيه أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، واجتماعهم على مصالحهم ، كالجسد الواحد ، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، فكما أنه يكره أن يقدح أحد في عرضه ، فليكره من كل أحد ، أن يقدح في أخيه المؤمن ، الذي بمنزلة نفسه ، وما لم يصل العبد إلى هذه الحالة ، فإنه من نقص إيمانه وعدم نصحه .
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } وهذا وعيد للذين جاءوا بالإفك ، وأنهم سيعاقبون على ما قالوا من ذلك ، وقد حد النبي صلى الله عليه وسلم منهم جماعة ، { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } أي : معظم الإفك ، وهو المنافق الخبيث ، عبد الله بن أبي بن سلول -لعنه الله- { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ألا وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار .
وبعد أن بين - سبحانه - حكم القذف بالنسبة للمحصنات . وبالنسبة للزوجات ، أتبع - عز وجل - ذلك بإيراد مثل لما قاله المنافقون فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - . ولما كان يجب على المؤمنين أن يفعلوه فى مثل هذه الأحوال ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " هذه الآيات نزلت فى شأن السيدة عائشة - رضى الله عنها - حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين ، بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التى غار الله - تعالى - لها ولنبيه صلى الله عليه وسلم فأنزل براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم .
جاء فى الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى - وكان ذلك فى غزوة بنى المصطلق على الأرجح - ، فخرجت مع النبى صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أُنزل الحجاب ، وأنا أُحمل فى هودج وأنزل فيه .
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش .
فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الراحلة ، فلمست صدرى ، فإذا عقد لى قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدى فاحتبسنى ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بى ، فاحتملوا هودجى ، فرحلوه على بعيرى . وهم يحسبون أنى فيه . وكان النساء إذ ذاك خفافا ، لم يثقلهن اللحم ، فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدى بعد ما سار الجيش . فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم فيممت منزلى الذى كنت فيه . وظننت أن القوم سيفقدوننى فيرجعون إلى .
فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عيناى فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمى ، قد عرَّس - أى تأخر - من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلى فرأى سواد إنسان نائم ، فأتانى فعرفنى حين رآنى . وقد كان يرانى قبل أن يُضْرَب علينا الحجاب .
فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفنى . فخمرت وجهى بجلبابى ، والله ما كلمنى كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حين أناخ راحلته ، فوطىء على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بى الراحلة . حتى أتينا الجيش ، بعدما نزلوا فى نحو الظهيرة . فهلك من هلك فى شأنى ، وكان الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول . . . " .
وقد افتتحت هذه الآيات الكريمة بقوله - تعالى - : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } .
والإفك : أشنع الكذب وأفحشه ، يقال أفِكَ فلان - كضرب وعلم - أَفْكاً ، أى : كذب كذبا قبيحا .
والعصبة : الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، من العصب وهو الشد ، لأن كل وأحد منها يشد الآخر ويؤازره .
أى : إن الذين قالوا ما قالوا من كذب قبيح ، وبهتان شنيع ، على السيدة عائشة - رضى الله عنها - هم جماعة ينتسبون إليكم - أيها المسلمون - بعضهم قد استزلهم الشيطان .
- كمسطح بن أثاثة - وبعضهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق - كعبد الله بن أبى بن سلول - وأتباعه .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { عُصْبَةٌ } : إشعار بأنهم جماعة لها أهدافها الخبيثة ، التى تواطئوا عل نشرها ، وتكاتفوا على إشاعتها ، بمكر وسوء نية .
وقوله - سبحانه - : { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ . . } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين الصادقين ، عما أصابهم من هم وغم بسبب هذا الحديث البالغ نهاية دركات الكذب والقبح .
أى : لا تظنوا - أيها المؤمنون - أن حديث الإفك هذا هو شر لكم ، بل هو خير لكم ، لأنه كشف عن قوى الإيمان من ضعيفة . كما فضح حقيقة المنافقين وأظهر ما يضمرونه من سوء للنبى صلى الله عليه وسلم ولأهل بيته ، وللمؤمنين ، كما أنكم قد نلتم بصبركم عليه وتكذيبكم له أرفع الدرجات عند الله تعالى .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الخائضين فى حديث الإفك من عقاب فقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } .
أى لكل واحد من هؤلاء الذين اشتركوا فى إشاعة حديث الإفك العقاب الذى يستحقه بسبب ما وقع فيه من آثام ، وما اقترفه من سيئات .
وقوله - تعالى - : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بيان لسوء عاقبة من تولى معظم إشاعة هذا الحديث الكاذب .
والكبر - بكسر الكاف وضمها - مصدر لمعظم الشىء وأكثره .
أى : والذى تولى معظم الخوض فى هذا الحديث الكاذب ، وحرض على إشاعته ، له عذاب عظيم لا يقادر قدره من الله - تعالى - .
والمقصود بهذا الذى تولى كبره . عبد الله بن أبى بن سلول ، رأس المنافقين وزعيمهم ، فهو الذى قاد حملته ، واضطلع بالنصيب الأكبر لإشاعته .
روى أنه لما جاء صفوان بن المعطل يقود راحلته وعليها عائشة - رضى الله عنها - قال عبد الله بن أبى لمن حوله : من هذه ؟ قالوا عائشة فقال - لعنه الله - : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها ، والله ما نجت منه وما نجا منها .
وقال ابن جرير : " والأولى بالصواب قول من قال ، الذى تولى كبره عبد الله بن أبى بن سلول ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير ، وأن الذى بدأ بذكر الإفك . وكان يجمع أهله ويحدثهم به ، هو عبد الله بن ابى بن سلول " .
وقال الآلوسى : " والذى تولى كبره . . . كما فى صحيح البخارى عن الزهرى عن عروة عن عائشة : هو عبد الله بن أبى - عليه اللعنة - وقد سار على ذلك أكثر المحدثين .
أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عمر ، أنه بعد نزول هذه الآيات فى براءة السيدة عائشة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ، ثم تلاها عليهم .
ثم بعث إلى عبد الله بن أبى . فجىء به فضربه حدين ، ثم بعث إلى حسان بن ثابت ، ومسطح . وحمنة بنت جحش فضربوا ضربا وجيعا . . . وقيل إن ابن أبى لم يحد أصلا ، لأنه لم يقر ، ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة " .
وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجا من القذف ، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته ؛ وهو يتناول بيت النبوة الطاهرة الكريم ، وعرض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أكرم إنسان على الله ، وعرض صديقه الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - أكرم إنسان على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وعرض رجل من الصحابة - صفوان بن المعطل رضي الله عنه - يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرا . . وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرا من الزمان . .
ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع :
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرى ء منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ، وقالوا : هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ! فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ؛ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم : ما يكونلنا أن نتكلم بهذا . سبحانك ! هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ؛ ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم . ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله . وليعفوا وليصفحوا . ألا تحبون أن يغفر الله لكم . والله غفور رحيم . إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين . الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين ، والطيبون للطيبات ، أولئك مبرأون مما يقولون ، لهم مغفرة ورزق كريم ) . .
هذا الحادث . حادث الإفك . قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاما لا تطاق ؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل ؛ وعلق قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقلب زوجة عائشة التي يحبها ، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه ، وقلب صفوان بن المعطل . . شهرا كاملا . علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق .
فلندع عائشة - رضي الله عنها - تروي قصة هذا الألم ، وتكشف عن سر هذه الآيات :
عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت :
كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي ، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب ، وأنا أحمل في هودج ، وأنزل فيه . فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من غزوته تلك ، وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل ، حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل ، فلمست صدري ، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه ؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أني فيه ؛ وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم ؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام ؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج ، فحملوه ؛ وكنت جارية حديثة السن ؛ فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي ، بعدما استمر الجيش ، فجئت منزلهم ، وليس فيه أحد منهم ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت . وكان صفوان بن المعطل السلمي . ثم الذكواني . قد عرس وراء الجيش ، فأدلج ، فأصبح عند منزلي ؛ فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني . وكان يراني قبل الحجاب . فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ؛ والله ما يكلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ؛ وهوى حتى أناخ راحلته ، فوطى ء على يديها ، فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش ، بعد ما نزلوا معرسين .
قالت : فهلك في شأني من هلك . وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول ؛ فقدمنا المدينة ، فاشتكيت بها شهرا ؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر . وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ? ثم ينصرف . فذلك الذي يريبني منه ، ولا أشعر بالشر حتى نقهت ، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط . فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشي . فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ! فقلت لها : بئسما قلت . أتسبين رجلا شهد بدرا ? فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قال ? فقلت : وما قال ? فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي . فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : كيف تيكم ? فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي . وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما . فأذن لي ، فأتيت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به ? فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقلت : سبحان الله ! ولقد تحدث الناس بهذا ? قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . ثم أصبحت أبكي . فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما - حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم . فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ، ولا نعلم والله إلا خيرا . وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تخبرك . قالت : فدعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بريرة فقال لها : أي بريرة . هل رأيت فيها شيئا يريبك ? فقالت : لا والذي بعثك بالحق نبيا إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من يومه ، واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول . فقال وهو على المنبر : من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ? فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا . ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي . قالت : فقام سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أنا والله أعذرك منه . إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام سعد بن عبادة - رضي الله عنه - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية . فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، لا تقتله ولا تقدر على ذلك . فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت - لعمر الله - لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان – الأوس والخزرج - حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المنبر ، فلم يزل يحفظهم حتى سكتوا ونزل .
وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم . ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم . فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتين ويوما ، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي . فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ، ثم جلس ، ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء ، فتشهد حين جلس ، ثم قال : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا . فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه " . فلما قضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما قال . قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن . فقلت : إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثا تحدث الناس به ، واستقر في نفوسكم ، وصدقتم به . فلئن قلت لكم : إني بريئة لا تصدقوني بذلك . ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة ، لتصدقنني . فوالله مما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " . ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى ؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى ؛ ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها . فوالله ما رام مجلسه ، ولا خرج أحد من أهل البيت ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، فسري عنه ، وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك . فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي . فأنزل الله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . . . العشر الآيات فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال لعائشة - رضي الله عنها - فأنزل الله تعالى : ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة . . إلى قوله ( والله غفور رحيم )فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا . قالت عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سأل زينب بنت جحش عن أمري ، فقال : " يا زينب . ما علمت وما رأيت ? " فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا . وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فعصمها الله تعالى بالورع . قالت : فطفقت أختها حمنة تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .
وهكذا عاش رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وعاش أبو بكر - رضي الله عنه - وأهل بيته . وعاش صفوان بن المعطل . وعاش المسلمون جميعا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق ، وفي ظل تلك الآلام الهائلة ، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات .
وإن الإنسان ليقف متململا أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة . وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة . تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيقة .
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة . ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها ، ونظافة تصوراتها ، ها هي ذي ترمي في أعز ما تعتز به . ترمى في شرفها . وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع . وترمى في أمانتها . وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم . وترمى في وفائها . وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القرب الكبير . . ثم ترمى في إيمانها . وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام ، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة . وهي زوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
ها هي ذي ترمى ، وهي بريئة غارة غافلة ، لا تحتاط لشيء ، ولا تتوقع شيئا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله ، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا ، تبرئها مما رميت به . ولكن الوحي يتلبث ، لحكمة يريدها الله ، شهرا كاملا ؛ وهي في مثل هذا العذاب .
ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح . وهي مهدودة من المرض . فتعاودها الحمى ؛ وهي تقول لأمها في أسى : سبحان الله ! وقد تحدث الناس بهذا ? وفي رواية أخرى تسأل : وقد علم به أبي ? فتجيب أمها : نعم ! فتقول : ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? - فتجيبها أمها كذلك : نعم !
ويا لله لها ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه ، يقول لها : " أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا ؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " . . فتعلم أنه شاك فيها ، لا يستيقن من طهارتها ، ولا يقضي في تهمتها . وربه لم يخبره بعد ، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها ؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها ، وأحلها في سويدائه !
وها هو ذا أبو بكر الصديق - في وقاره وحساسيته وطيب نفسه - يلذعه الألم ، وهو يرمى في عرضه . في ابنته زوج محمد - صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه ، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل ، لا يطلب دليلا من خارجه . . وإذا الألم يفيض على لسانه ، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم ، فيقول : والله ما رمينا بهذا في جاهلية . أفنرضى به في الإسلام ? وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل . حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة : أجب عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال في مرارة هامدة : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
وأم رومان - زوج الصديق رضي الله عنهما - وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء . المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها . فتقول لها : يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . . ولكن هذا التماسك بتزايل وعائشة تقول لها : أجيبي عني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول كما قال زوجها من قبل : والله ما أدري ما أقول لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] !
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل . وهو يرمي بخيانة نبيه في زوجه . فيرمي بذلك في إسلامه ، وفي أمانته ، وفي شرفه ، وفي حميته . وفي كل ما يعتز به صحابي ، وهو من ذلك كله برى ء . وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره ، فيقول : سبحان الله ! والله ما كشفت كتف أنثى قط . ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه ، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به . ودافعه إلى رفع سيفه على امرى ء مسلم ، وهو منهى عنه ، أن الألم قد تجاوز طاقته ، فلم يملك زمام نفسه الجريح !
ثم ها هو ذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو رسول الله ، وهو في الذروة من بني هاشم . . ها هو ذا يرمى في بيته . وفي من ? في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجه والحبيبة . وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه ، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة . وها هو ذا يرمي في صيانة حرمته ، وهو القائم على الحرمات في أمته . وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له ، وهو الرسول المعصوم من كل سوء .
ها هو ذا [ صلى الله عليه وسلم ] يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة - رضي الله عنها - يرمى في فراشه وعرضه ، وقلبه ورسالته . يرمى في كل ما يعتز به عربي ، وكل ما يعتز به نبي . . ها هو ذا يرمى في هذا كله ؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهرا كاملا ، فلا يملك أن يضع لهذا كله حدا . والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهرا كاملا لا يبين فيه بيانا . ومحمد الإنسان يعاني ما يعانيه الإنسان في هذا الموقف الأليم . يعاني من العار ، ويعاني فجيعة القلب ؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة . الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق . . والشك يعمل في قلبه - مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله ، ولكنه لا يطمئن نهائيا إلى هذه القرائن - والفرية تفوح في المدينة ، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك ؛ فلا يملك أن يطرد الشك . لأنه في النهاية بشر ، ينفعل في هذا انفعالات البشر . وزوج لا يطيق أن يمس فراشه . ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت ، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم .
وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده ، فيبعث إلى أسامة بن زيد . حبه القريب إلى قلبه . . ويبعث إلى علي ابن أبي طالب . ابن عمه وسنده . يستشيرهما في خاصة أمره . فأما علي فهو من عصب محمد ، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب . ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد ، ابن عمه وكافله . فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه . ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويستقر على قرار . وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من الود لأهله ، والتعب لخاطر الفراق ، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين ، وكذب المفترين الأفاكين .
ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في لهفة الإنسان ، وفي قلق الإنسان ، يستمد من حديث أسامة ، ومن شهادة الجارية مددا وقوة يواجه بهما القوم في المسجد ، فيستعذر ممن نالوا عرضه ، ورموا أهله ، ورموا رجلا من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء . . فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور - وهم في مسجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة ، وقد خدشت قداسة القيادة ، ويحز هذا في نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والنور الذي اعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق ! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس ؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح !
وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه ، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقةالطاهرة ؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع ؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك ، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم .
ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل : " وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي . ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيا يتلى . ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى . ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها " . .
ولكن الأمر - كما يبدو من ذلك الاستعراض - لم يكن أمر عائشة - رضي الله عنها - ولا قاصرا على شخصها . فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ووظيفته في الجماعة يومها . بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها . وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها ، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها . . من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة ، ويرد المكيدة المدبرة ، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام ؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله ؛ وما يعلمها إلا الله :
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم . لا تحسبوه شرا لكم ، بل هو خير لكم . لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .
فهم ليسوا فردا ولا أفرادا ؛ إنما هم( عصبة ) متجمعة ذات هدف واحد . ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك . إنما هو الذي تولى معظمه . وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين ، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة ؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية . وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة . ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش ؛ وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة . أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة ، وعلى رأسها ابن سلول ، الحذر الماكر ، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة . ولم يقل علانية ما يؤخذ به ، فيقاد إلى الحد . إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم ، ولا يشهدون عليه . وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرا كاملا ، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها !
وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث ، وعمق جذوره ، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم .
ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد :
( لا تحسبوه شرا لكم ؛ بل هو خير لكم ) . .
خير . فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته . وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله ؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . فهي عندئذ لا تقف عند حد . إنما تمضي صعدا إلى أشرف المقامات ، وتتطاول إلى أعلى الهامات ، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء .
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة - بهذه المناسبة - عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم .
أما الآلام التي عاناها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأهل بيته ، والجماعة المسلمة كلها ، فهي ثمنالتجربة ، وضريبة الابتلاء ، الواجبة الأداء !
أما الذين خاضوا في الإفك ، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة : ( لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ) . . ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله . وبئس ما اكتسبوه ، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى : ( والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم )يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم .
والذي تولى كبره ، وقاد حملته ، واضطلع منه بالنصيب الأوفى ، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول . رأس النفاق ، وحامل لواء الكيد . ولقد عرف كيف يختار مقتلا ، لولا أن الله كان من ورائه محيطا ، وكان لدينه حافظا ، ولرسوله عاصما ، وللجماعة المسلمة راعيا . . ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال : من هذه ? فقالوا : عائشة رضي الله عنها . . فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها . وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ؛ ثم جاء يقودها !
وهي قولة خبيثة راح يذيعها - عن طريق عصبة النفاق - بوسائل ملتوية . بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق ، والتي تكذبها القرائن كلها . وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين . وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهرا كاملا . وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى .
وإن الإنسان ليدهش - حتى اليوم - كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك . وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة ، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق .
لقد كانت معركة خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك . وخاضها الإسلام . معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وخرج منها منتصرا كاظما لآلامه الكبار ، محتفظا بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره . فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله . والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته . والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه .
ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه ؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه . والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور ، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها :