{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي : تدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس والظل والسكون والانتشار ، ما هو من أكبر الأدلة على قدرة الله وعظمته وحكمته ورحمته { وتخرج الحي من الميت } كالفرخ من البيضة ، وكالشجر من النوى ، وكالزرع من بذره ، وكالمؤمن من الكافر { وتخرج الميت من الحي } كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر ، وكالحب من الزرع ، وكالكافر من المؤمن ، وهذا أعظم دليل على قدرة الله ، وأن جميع الأشياء مسخرة مدبرة لا تملك من التدبير شيئا ، فخلقه تعالى الأضداد ، والضد من ضده بيان أنها مقهورة { وترزق من تشاء بغير حساب } أي : ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث لا يحتسب ولا يكتسب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا من مظاهر قدرته الباهرة فقال : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } .
الولوج في الأصل : الدخول ، والإيلاج الإدخال . يقال : ولج فلان منزله إذا دخله ، فهو يلجه ولجا وولوجا .
وأولجته أنا إذا أدخلته ، ثم استعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب .
أي أنت يا الله يا مالك الملك . أنت الذى بقدرتك تدخل طائفة من الليل في النهار فيقصر الليل ويزيد النهار وتدخل طائفة من النهار في الليل فيقصر النهار ويزيد الليل ، وأنت وحدك الذى بقدرتك أن تجعلهما متعاقبين بأن تأتى بالليل رويداً رويداً في أعقاب النهار ، وتأتي بالنهار شيئاً فشيئاً فى أعقاب الليل ، وفى كل ذلك دليل على سعة قدرتك ، وواسع رحمتك . وتذكير واعتبار لأولى الألباب .
ثم ذكر - سبحانه - مظهرا حسيا آخر من مظاهر قدرته فقال : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } .
قال الفخر الرازي : ذكر المفسرون فيه وجوها .
أحدها : يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر ، والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح .
والثاني : يخرج الحيوان - وهو حي - من النطفة - وهي ميتة - ، والدجاجة - وهي حية - من البيضة أو العكس .
والثالث : يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس : ثم قال : والكلمة محتملة للكل : أما الكفر والإيمان فقال - تعالى - { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يريد كان كافرا فهديناه ، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة ، وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل ما قبل ذلك ميتة فقال : { وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } وقال : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } وفى الحق : إن المتدبر فى هذا الكون وما يعترى سكانه من موت وحياة ليشهد ويذعن بأن لهذا الكون خالقا قادراً هو الله الواحد القهار .
ثم ختم - سبحانه - مظاهر قدرته ورحمته بقوله { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } والرزق - كما يقول الراغب - يقال للعطاء الجارى تارة دنيوا كان أو أخرويا . وللنصيب تارة ، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة أخرى يقال : أعطى السلطان رزق الجند ، ورزقت علما ، قال - تعالى - : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت } أى : من المال والجاه والعلم " .
أي أنت يا الله يا مالك الملك ، أنت وحدك الذى ترزق من تشاء أن ترزقه بغير حساب ، أي رزقا واسعا عظيما لأنك أنت صاحب الجود والكرم ، ولأنك ليس معك شريك فيحاسبك ، بل أنت المعطى بدون محاسب ، وبدون محاسبة من تعطيه ، ولأن خزائن ملكك لا ينقصها العطاء مهما كثر .
ومن كانت هذه صفاته ، وتلك بعض مظاهر قدرته : من إيتاء الملك لمن يشاء ونزعه ممن يشاء وإيلاج الليل فى النهار والنهار فى الليل ، وإخراج الحى من الميت والميت من الحي ، كان من حقه أن يفرد بالعبادة والخضوع { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين }
قال ابن كثير : روى الطبرانى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الأعظم الذى إذا دُعي به أجاب في هذه الآية :
{ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } " .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد وصفتا الخالق - عز وجل - بما هو أهله ، من قدرة تامة وسلطان نافذ ، ورحمة واسعة ، وهذا الوصف من شانه أن يحمل كل عاقل على إخلاص العبادة له - سبحانه - وعلى الاستجابة لكل ما أمر به أو نهى عنه رغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه .
وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :
( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.