تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

{ 99 } { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

وهذا من أعظم مننه العظيمة ، التي يضطر إليها الخلق ، من الآدميين وغيرهم ، وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه ، فأنبت الله به كل شيء ، مما يأكل الناس والأنعام ، فرتع الخلق بفضل الله ، وانبسطوا برزقه ، وفرحوا بإحسانه ، وزال عنهم الجدب واليأس والقحط ، ففرحت القلوب ، وأسفرت الوجوه ، وحصل للعباد من رحمة الرحمن الرحيم ، ما به يتمتعون وبه يرتعون ، مما يوجب لهم ، أن يبذلوا جهدهم في شكر من أسدى النعم ، وعبادته والإنابة إليه ، والمحبة له .

ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ، من أنواع الأشجار والنبات ، ذكر الزرع والنخل ، لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لأكثر الناس فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ } أي : من ذلك النبات الخضر ، { حَبًّا مُتَرَاكِبًا } بعضه فوق بعض ، من بر ، وشعير ، وذرة ، وأرز ، وغير ذلك ، من أصناف الزروع ، وفي وصفه بأنه متراكب ، إشارة إلى أن حبوبه متعددة ، وجميعها تستمد من مادة واحدة ، وهي لا تختلط ، بل هي متفرقة الحبوب ، مجتمعة الأصول ، وإشارة أيضا إلى كثرتها ، وشمول ريعها وغلتها ، ليبقى أصل البذر ، ويبقى بقية كثيرة للأكل والادخار .

{ وَمِنَ النَّخْلِ } أخرج الله { مِنْ طَلْعِهَا } وهو الكفرى ، والوعاء قبل ظهور القنو منه ، فيخرج من ذلك الوعاء { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } أي : قريبة سهلة التناول ، متدلية على من أرادها ، بحيث لا يعسر التناول من النخل وإن طالت ، فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ، يسهل صعودها .

{ و } أخرج تعالى بالماء { جنات مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } فهذه من الأشجار الكثيرة النفع ، العظيمة الوقع ، فلذلك خصصها الله بالذكر بعد أن عم جميع الأشجار والنوابت .

وقوله { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون ، أي : مشتبها في شجره وورقه ، غير متشابه في ثمره .

ويحتمل أن يرجع ذلك ، إلى سائر الأشجار والفواكه ، وأن بعضها مشتبه ، يشبه بعضه بعضا ، ويتقارب في بعض أوصافه ، وبعضها لا مشابهة بينه وبين غيره ، والكل ينتفع به العباد ، ويتفكهون ، ويقتاتون ، ويعتبرون ، ولهذا أمر تعالى بالاعتبار به ، فقال : { انْظُرُوا } نظر فكر واعتبار { إِلَى ثَمَرِهِ } أي : الأشجار كلها ، خصوصا : النخل { إذا أثمر }

{ وَيَنْعِهِ } أي : انظروا إليه ، وقت إطلاعه ، ووقت نضجه وإيناعه ، فإن في ذلك عبرا وآيات ، يستدل بها على رحمة الله ، وسعة إحسانه وجوده ، وكمال اقتداره وعنايته بعباده .

ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر ، أدرك المعنى المقصود ، ولهذا قيد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين فقال : { إِنَّ فِي ذَلِكَم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان ، على العمل بمقتضياته ولوازمه ، التي منها التفكر في آيات الله ، والاستنتاج منها ما يراد منها ، وما تدل عليه ، عقلا ، وفطرة ، وشرعا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

ثم ساق - سبحانه - حجة خامسة تدل دلالة واضحة على كمال قدرته وعلمه ورحمته وإحسانه إلى خلقه فقال - تعالى - :

{ وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } .

أى : وهو - سبحانه - الذى أنزل من السحاب ماء فأخرجنا بسبب ذلك كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة فى الكم والكيف والطعوم والألوان ، قال - تعالى -

{ وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } وسمى السحاب سماء لأن العرب تسمى كل ما علا سماء ، و نزول الماء من السحاب قد جاء صريحاً فى مثل قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون } و { مِنَ } فى قوله { مِنَ السمآء } ابتدائية ، لأن ماء المطر يتكون فى طبقات الجو العليا البادرة عند تصاعد البخار الأرضى إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يتحول إلى ماء ، والباء فى { بِهِ } للسببية . حيث جعل الله - تعالى - الماء سبباً فى خروج النبات ، والفاء فى قوله { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } للتفريع و { أَخْرَجْنَا } عطف على { أَنزَلَ } والالتفات إلى التكلم إظهار لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله .

ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل ما أجمل من الإخراج فقال : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } أى : فأخرجنا من النبات الذى لا ساق له نباتا غضا أخر ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة ، وخضر بمعنى أخضر اسم فاعل . يقال " خضر الزرع - من باب فرح - وأخضر ، فهو خضر وأخضر .

وقوله { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } . أى : نخرج من هذا النبات الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } أى : متراكما بعضه فوق بعض كما فى الحنطة والشعير وسائر الحبوب ، يقال : ركبه - كسمعه - ركوباً ومراكباً . أى : علاه .

وجملة { نُّخْرِجُ مِنْهُ } صفة لقوله " خضرا " . وعبر عنها بصيغة المضارع لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة لأن إخراج الحب المتراكب من هذا الخضر الغض يدعو إلى التأمل والإعجاب بمظاهر قدرة الله .

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى فقال : { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } .

الطلع : أول ما يبدو ويخرج من تمر النخل كالكيزان . وقشره يسمى الكفرى ؛ وما فى داخله يسمى الإغريق لبياضه .

والقنوان : جمع قنو وهو العرجون بما فيه الشماريخ ، وهو ومثناه سواه لا يفرق بينهما إلا فى الإعراب . أى : ونخرج بقدرتنا من طلع النخل قنوان دانية القطوف ، سهلة التناول أو بعضها دان قريب من بعض لكثرة حملها .

قال صاحب الكشاف : و { قِنْوَانٌ } رفع بالابتداء ، و { مِنَ النخل } خبره و { ن طَلْعِهَا } بدل منه . كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان دانية . وذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأن النعمة فيها أظهر وأدل ، واكتفى بذكر القريبة على ذكر البعيدة كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } وقوله : { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } معطوف على { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أى : فأخرجنا بهذا الماء نبات كل شىء وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب .

وجعله : بعضهم عطفاً على { خَضِراً } . وقيل هو معطوف على { حَبّاً } .

وقوله : { والزيتون والرمان } منصوب على الاختصاص أى : وأخص من نبات كل شىء الزيتون والرمان ، وقيل معطوف على { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } .

قال الآلوسى : وقوله : { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } إما حال من الزيتون لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه وهو الرمان والتقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك ، وإما حال من الرمان لقربه ويقدر مثله فى الأول .

وأياما كان ففى الكلام مضاف مقدر وهو بعض . أى بعض ذلك مشتبهاً وبعضه غير متشابه فى الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها ، وحكمة منشئها ومبدعها كما قال - تعالى - { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } ثم أمر الله عباده أن يتأملوا فى بديع صنعه فقال : { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أى : انظروا نظر تأمل واعتبار إلى ثمار كل واحد مما ذكرنا حال ابتدائه حين يكون ضئيلا ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، وحال ينعه أى : نضجه كيف يصير كبيراً أو جامعاً لألوان من المنافع والملاذ .

يقال : أينعت الثمرة إذا نضجت .

وقوله { إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : إن فى ذلكم الذى ذكرناه من أنواع النبات والثمار ، وذلكم الذى أمرتم بالنظر إليه لدلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم يصدقون بأن الذى أخرج هذا النبات وهذه الثمار لهو المستحق للعبادة دون ما سواه أو هو القادر على أن يحيى الموتى ويبعثهم .

قال الشيخ القاسمى : قال بعضهم : القوم كانوا ينكرون البعث فاحتج عليهم بتعريف ما خلق ونقله من حال إلى حال وهو ما يعلمونه قطعاً ويشاهدونه من إحياء الأرض بعد موتها ، وإخراج أنواع النبات والثمار منها . وأنه لا يقدر على ذلك أحد إلى الله - تعالى - فبين أنه - سبحانه - كذلك قادر على إنشائهم من نفوسهم وأبدانهم ، وعلى البعث بإنزال المطر من السماء ، ثم إنبات الأجساد كالنبات ، ثم جعلها خضرة بالحياة ثم تصوير الأعمال بصورة كثيرة ، وإفادة أمور زائدة وتفريعها ، وإعطاء أطعمة مشتبهة فى الصورة غير متشابهة فى اللذة جزاء عليها " .

هذا وقد أفاض الإمام الرازى - رحمه الله - عند تفسيره لهذه الآية فى بيان مظاهر قدرة الله وكمال رحمته وحكمته فقال ما ملخصه :

" اعلم أنه - تعالى - ذكره هنا أربعة أنواع من الأشجار : النخل والعنب والزيتون والرمان . وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجرى مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب . وإنما ذكر العنب عقيب النخيل ، لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال .

وأما الزيتون فهو - أيضاً - كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل - أيضاً - عنه دهن كثير عظيم النفع . وأما الرمان فحاله عجيب جداً . واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفى بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر - سبحانه - هذه الأقسام الأربعة التى هى أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقى .

ثم قال : وقد أمر - سبحانه - بالنظر فى حال ابتداء الثمر ونضجه لأن هذا هو موضوع الاستدلال ، والحجة التى هى تمام المقصود من هذه الآية وذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد فى أول حدوثها عن صفات مخصوصة وعند تمامها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة ، وربما كانت فى أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير فى آخر أمرها حارة بحسب الطبيعة - أيضاً - فحصول هذه المتبدلات والمتغيرات لا بد له من سبب ، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك ، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة ، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة . ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسناده إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة ، والمصلحة الحكيمة " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَهُوَ الّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مّتَرَاكِباً وَمِنَ النّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُونَ وَالرّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوَاْ إِلِىَ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنّ فِي ذَلِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والله الذي له العبادة خالصة لا شركة فيه لشيء سواه ، هو الإله الّذي أَنْزَلَ مِنَ السّمَاء مَاءً فأخْرَجْنا به نَبَاتَ كُلّ شَيْءٍ فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحشس ، وأرزاق بني آدم وأقواتهم ما يتغذّون به ويأكلونه فينبتون عليه وينمون .

وإنما معنى قوله : فَأخْرَجْنَا بِهِ نَباتَ كُلّ شَيْءٍ : فأخرجنا به ما ينبت به كلّ شيء وينمو عليه ويصلح . ولو قيل معناه : فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات فيكون كلّ شيء هو أصناف النبات ، كان مذهباً وإن كان الوجه الصحيح هو القول الأوّل .

وقوله : فأخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يقول : فأخرجنا منه يعني من الماء الذي أنزلناه من السماء خضراً رطباً من الزرع والخَضِرُ : هو الأخضر ، كقول العرب : أرنيها نَمرَةً أُرِكْها مَطِرَةً ، يقال : خَضِرَت الأرضُ خَضَراً وَخَضارة ، والخضر : رطب البقول ، ويقال : نخلة خضيرة : إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج ، وقد اختُضر الرجل واغتضر : إذا مات شابّا مصححاً ، ويقال : هو لك خضراً مضراً : أي هنيئاً مريئاً . قوله : نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَكِباً يقول : نخرج من الخضر حبّا ، يعني : ما في السنبل ، سنبل الحنطة والشعير والأرز ، وما أشبه ذلك من السنابل التي حبها يركب بعضه بعضاً .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : مِنْه خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مُتَرَاكِباً فهذا السنبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ .

يقول تعالى ذكره : ومن النخل من طلعها قنوان دانية ولذلك رفعت «القنوان » . والقنوان : جمع قِنْو ، كما الصنوان : جمع صِنْو ، وهو العِذْق ، يقال للواحد : هو قِنو وقُنْو وقَنَا : يثنى قِنوانِ ، ويجمع قِنوانٌ وقُنْوانٌ ، قالوا في جمع قليله : ثلاثة أقناء ، والقِنْوان : من لغة الحجاز ، والقنوان : من لغة قيس وقال امرؤ القيس :

فأثّتْ أعالِيهِ وآدَتْ أُصُولُهُ ***وَمالَ بِقِنْوَانٍ مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا

وقنيان جميعاً وقال آخر :

لَهَا ذَنَبٌ كالْقِنْوِ قَدْ مَذِلَتْ بِهِ ***وأسْحَمَ للتّخْطارِ بَعْدَ التّشَذّرِ

وتميم تقول : قنيان بالياء . ويعني بقوله : «دانية » : قريبة متهدلة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل لاصقة عذوقها بالأرض .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مِنْ طَلْعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : عذوق متهدلة .

حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يقول : متهدلة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، في قوله : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : قريبة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : قريبة .

حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلُعِها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال : الدانية لتهدّل العذوق من الطلع .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ النّخْلِ مِنْ طَلْعها قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني : النخل القصار الملتزقة بالأرض ، والقنوان : طلعه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه .

يقول تعالى ذكره : وأخرجنا أيضاً جنات من أعناب ، يعني : بساتين من أعناب .

واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة القرّاء : وَجَنّاتٍ نصباً ، غير أن التاء كسرت لأنها تاء جمع المؤنث ، وهي تخفض ي موضع النصب . وقد :

حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، عن الكسائي ، قال : أخبرنا حمزة ، عن الأعمش ، أنه قرأ : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ بالرفع ، فرفع «جنات » على إتباعها «القنوان » في الإعراب ، وإن لم تكن من جنسها ، كما قال الشاعر :

ورأيْت زَوْجَكِ في الوَغَى ***مُتَقَلّداً سَيْفاً وَرُمْحَا

والقراءة التي لا أتجيز أن يُقرأ ذلك إلا بها النصب وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ لإجماع الحجة من القرّاء على تصويبها والقراءة بها ورفضهم ما عداها ، وبُعْد معنى ذلك من الصواب إذ قرىء رفعاً . وقوله : والزّيْتُونَ والرّمّانِ عطف بالزيتون على «الجنات » بمعنى : وأخرجنا الزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه .

وكان قتادة يقول في معنى مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه ما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجَنّاتٍ مِنْ أعْنَابٍ والزّيْتُونَ والرّمّانِ مُشْتَبِهاً وَغيرَ مُتَشابِه قال : مشتبهاً ورقه ، مختلفاً تمره .

وجائز أن يكون مراداً به : مشتبهاً في الخلق مختلفاً في الطعم ومعنى الكلام : وشجر الزيتون والرمان ، فاكتفى من ذكر الشجر بذكر ثمره ، كما قيل : وَاسأل القَرْيَةَ فاكتفى بذكر القرية من ذكر أهلها ، لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه .

القول في تأويل قوله تعالى : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ بفتح الثاء والميم ، وقرأه بعض قراء أهل مكة وعامة قرّاء الكوفيين : إلى ثُمُرِهِ بضم الثاء والميم . فكأنّ من فتح الثاء والميم من ذلك وجّه معنى الكلام : انظروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمر وأن الثّمَر جمع ثمرة ، كما القَصَب جمع قصبة ، والخشب جمع خشبة . وكأن من ضمّ الثاء والميم ، وجه ذلك إلى أنه جمع ثمار ، كما الحُمُر جمع حمار ، والجُرُب جمع جراب . وقد :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، أنه كان يقرأ : «إلى ثُمُرِهِ » يقول : هو أصناف المال .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، حدثنا بن أبي حماد ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الله ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، قال الثّمُر : هو المال ، والثّمَر : ثمر النخل .

وأولى القراءتين في ذلك عند بالصواب ، قراءة من قرأ : انْظُرُوا إلى ثُمُرِهِ بضمّ الثاء والميم ، لأن الله جلّ ثناؤه وصف أصنافاً من المال ، كما قال يحيى بن وثاب . وكذلك حبّ الزرع المتراكب ، وقنوان النخل الدانية ، والجنات من الأعناب والزيتون والرمان ، فكان ذلك أنواعاً من الثمر ، فجمعت الثمرة ثَمراً ثم جمع الثمر ثماراً ، ثم جمع ذلك فقيل : «انظروا إلى ثُمُره » ، فكان ذلك جمع الثمار ، والثمار جمع الثمرة ، وإثماره : عقد الثمر .

وأما قوله : وَيَنْعِهِ فإنه نضجه وبلوغه حين يبلغ . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في «يَنْعِهِ » إذا فتحت ياؤه : هو جمع يانع ، كما التّجْر : جمع تاجر ، والصّحْب : جمع صاحب . وكان بعض أهل مكة ينكر ذلك ويرى أنه مصدر ، من قولهم : ينع الثمر فهو يَيْنَع يَنْعاً ، ويحكي في مصدره عن العرب لغات ثلاثاً : يَنْع ، ويُنْعٌ ، ويَنَع ، وكذلك في النّضْج النّضْج والنّضَج .

وأما في قراءة من قرأ ذلك : «ويَانِعِهِ » فإنه يعني به : وناضجه وبالغه وقد يجوز في مصدره ينُوعاً ، ومسموع عند العرب : أينعت الثمرة تونع إيناعاً ومن لغة اللذين قالوا يَنَع ، قول الشاعر :

فِي قِبابٍ عِنْدَ دَسْكَرَةٍ ***حَوْلَهَا الزّيْتُونُ قَدْ يَنَعا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ويَنْعِهِ يعني : إذا نضج .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : انْطُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ قال : ينعه : نضجه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ ويَنْعِهِ أي نضجه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَيَنْعِهِ قال : نضجه .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ويَنْعِهِ يقول : ونضجه .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيَنْعِهِ قال : يعني : نضجه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَيَنْعِهِ قال : نضجه .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ فِي ذَلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

يقول تعالى ذكره : إن في إنزال الله تعالى من السماء الماء الذي أخرج به نبات كلّ شيء ، والخضر الذي أخرج منه الحبّ المتراكب ، وسائر ما عدّد في هذه الاَية من صنوف خلقه لاَيَاتٍ يقول : في ذلكم أيها الناس إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره ، وعند ينعه وانتهائه ، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرّفه في زيادته ونموّه ، علمتم أن له مدبراً ليس كمثله شيء ، ولا تصلح العبادة إلاّ له دون الاَلهة والأنداد ، وكان فيه حجج وبرهان وبيان لَقوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول : لقوم يصدّقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء . وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون ، لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها ، دون من قد طبع على قلبه فلا يعرف حقّا من باطل ولا يتبين هدى من ضلالة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَيۡءٖ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرٗا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّٗا مُّتَرَاكِبٗا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٞ دَانِيَةٞ وَجَنَّـٰتٖ مِّنۡ أَعۡنَابٖ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهٗا وَغَيۡرَ مُتَشَٰبِهٍۗ ٱنظُرُوٓاْ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَيَنۡعِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمۡ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (99)

القول في صيغة القصر من قوله : { وهو الذي أنزل } إلخ كالقول في نظيره السّابق . و ( مِن ) في قوله : { مِن السّماء } ابتدائية لأنّ ماء المطر يتكوّن في طبقات الجوّ العُليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفاً وهو السّحاب ثمّ يستحيل ماء . فالسّماء اسم لأعلى طبقات الجوّ حيث تتكوّن الأمطار . وتقدّم في قوله تعالى : { أو كَصيّب من السّماء } في سورة البقرة . وعُدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلّم في قوله : { فأخرجْنا } على طريقة الإلتفات . والباء للسّببيّة جَعل الله الماء سبباً لخروج النّبات ، والضّمير المجرور بالباء عائد إلى الماء .

والنّباتُ اسم لما يَنبت ، وهو اسم مصدر نَبَتَ ، سمّي به النّابت على طريقة المجاز الّذي صار حقيقة شائعة فصار النَّبات اسماً مشتركاً مع المصدر .

و { شيء } مراد به صِنف من النّبات بقرينة إضافة { نباتَ } إليه . والمعنى : فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النّبت . فإنّ النبت جنس له أنواع كثيرة ؛ فمنه زرع وهو ما له ساق ليّنة كالقَصَب ؛ ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنّخل ، والعنب ؛ ومنه نَجْم وأبّ وهو ما ينبت لاصِقاً بالتّراب ، وهذا التّعميم يشير إلى أنّها مختلفة الصّفات والثّمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق ، وهي كلّها نابتة من ماء السّماء الّذي هو واحد ، وذلك آية على عظم القدرة ، قال تعالى : { تُسقَى بماء واحد ونُفضّل بعضَها على بعضضٍ في الأكل } [ الرعد : 4 ] وهو تنبيه للنّاس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى الّتي سبّبتْ اختلاف أحوالها .

والفاء في قوله : { فأخرجنا به نبات كلّ شيء } فاء التّفريع .

وقوله : { فأخرجنا منه خضراً } تفصيل لمضمون جملة { فأخرجْنا به نبات كلّ شيء } ، فالفاء للتّفصيل ، و ( من ) ابتدائية أو تبعيضيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى النّبات ، أي فكان من النبت خضر ونَخْل وجنّات وشجر ، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه .

والخَضِر : الشّيء الّذي لونه أخضر ، يقال : أخْضر وخَضِر كما يقال : أعور وعَور ، ويطلق الخضر اسماً للنّبت الرّطب الّذي ليس بشجر كالقصيل والقضب . وفي الحديث : « وإنّ ممّا يُنبت الرّبيعُ لَمَا يَقْتُل حَبَطا أو يُلِمّ إلاّ آكِلَةَ الخَضِر أكلتْ حتّى إذا امتَدّتْ خاصرتاها » الحديث . وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه { نخرج منه حبّاً متراكباً } ، فإنّ الحبّ يخرج من النّبت الرّطب .

وجملة : { نخرج منه } صفة لقوله { خضرا } لأنّه صار اسماً ، و ( من ) اتِّصاليّة أو ابتدائيّة ، والضّمير المجرور بها عائد إلى { خَضِرا } .

والحَبّ : هو ثمر النّبات ، كالبُرّ والشّعير والزّراريع كلّها .

والمتراكب : الملتصق بعضه على بعض في السنبلة ، مثل القَمح وغيره ، والتّفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضاً .

وجملة : { ومن النّخل من طلعها قنوان دانية } عطف على { فأخرجنا منه خضراً } . ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضيّة ، وقوله : { من النّخل } خبر مقدّم و { قنوان } مبتدأ مؤخّر .

والمقصود بالإخبار هنا التّعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجةٍ ، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات ، على أنّ موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنّة .

والتّعريف في { النّخل } تعريف العهد الجنسي ، وإنّما جيء بالتّعريف فيه للإشارة إلى أنّه الجنس المألوف المعهود للعرب ، فإنّ النّخل شجرهم وثَمره قُوتُهم وحوائطه منبَسَط نفوسهم ، ولك أن تجعله حالاً من { النّخل } اعتداداً بالتّعريف اللّفظي كقوله { والزّيتونَ والرّمَّان مشتبهاً } ، ويجوز أن يكون { من طلعها } بدل بعض من { النّخل } بإعادة حرف الجرّ الدّاخل على المبدل منه .

و { قِنوان } بكسر القاف جمع قِنو بكسر القاف أيضاً على المشهور فيه عند العرب غيرَ لغة قيس وأهل الحجاز فإنّهم يضمّون القاف . فقنوان بالكسر جمع تكسير . وهذه الصّيغة نادرة ، غير جمع فُعَل ( بضمّ ففتح ) وفُعْل ( بضمّ فسكون ) وفَعْل ( بفتح فسكون ) إذا كانا واويي العين وفُعال .

والقِنو : عرجون التّمر ، كالعنقود للعنب ، ويسمّى العِذق بكسر العين ويسمّى الكِبَاسة بكسر الكاف .

والطَّلْع : وعاء عرجون التّمر الّذي يبدو في أوّل خروجه يكون كشكل الأترُجَّة العظيمة مغلقاً على العرجون ، ثمّ ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعاً ، ويسمّى حينئذٍ الإغريض ، ثمّ يصير قِنوا .

و { دانية } قريبة . والمراد قريبة التّناول كقوله تعالى : { قطوفها دانية } [ الحاقة : 23 ] . والقنوان الدانية بعض قنوان النّخل خصّت بالذّكر هنا إدماجاً للمنّة في خلال التّذكير بإتّقان الصنعة فإنّ المنّة بالقنوان الدّانية أتمّ ، والدّانية هي الّتي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول ، ولا حاجة لذكر البعيدة التّناول لأنّ الذّكرى قد حصلت بالدّانية وزادت بالمنّة التّامّة .

و{ جنّاتٍ } بالنّصب عطف على { خِضرا } . وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفْع { جنّات } لم يصحّ .

وقوله : { من أعناب } تمييز مجرور ب { مِن } البيانيّة لأنّ الجنّات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريت تَمراً ، وبهذا الاعتبار عُدّي فعل الإخراج إلى الجنّات دون الأعناب ، فلم يقل وأعناباً في جنّات . والأعناب جمع عِنَب ، وهو جمع عِنَبَة ، وهو في الأصل ثمر شجر الكَرْم . ويطلق على شجرة الكرم عِنب على تقدير مضاف ، أي شجرة عنب ، وشاع ذلك فتنوسي المضاف . قال الرّاغب : « العِنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه » اه . ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم ، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ولكن يطلق بالجمع ، يقال : عنب ، مراد به الكرم ، كما في قوله تعالى : { فأنبتنا فيها حَبّاً وعنباً } [ عبس : 27 ، 28 ] ، ويقال : أعناب كذلك ، كما هنا ، وظاهر كلام الرّاغب أنّه يقال : عِنبة لشجرة الكرم ، فإنّه قال : « العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة » .

{ والزّيتون والرمّان } بالنّصب عطف على { جنّات } والتّعريف فيهما الجنس كالتّعريف في قوله : { ومن النّخل } .

والمراد بالزّيتون والرمّان شجرهما . وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثمّ أطلقا على شجرتيهما كما تقدّم في الأعناب . وهاتان الشّجرتان وإن لم تكونا مثل النّخل في الأهميّة عند العرب إلاّ أنّهما لعزّة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التّفكّه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذُكرا في مقام التّذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنّته . وكانت شجرة الزّيتون موجودة بالشّام وفي سينا ، وشجرة الرمّان موجودة بالطّائف .

وقوله : { مشتبهاً وغير متشابه } حال ومعطوف عليه ، والواو للتّقسيم بقرينة أنّ الشيء الواحد لا يكون مشتبهاً وغير متشابه ، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه . وهما حالان من « الزّيتون والرمّان » معاً ، وإنّما أفرد ولم يجمع اعتباراً بإفراد اللّفظ . والتّشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء ، وهما مشتقّان من الشبَه . والجمع بينهما في الآية للتّفنّن كراهيّة إعادة اللّفظ ، ولأنّ اسم الفاعل من التّشابه أسعد بالوقف لما فيه من مدّ الصّوت بخلاف { مُشتبه } . وهذا من بديع الفصاحة .

والتّشابه : التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال ، أي بعض شجره يشبه بعضاً وبعضه لا يشبه بعضاً ، أو بعض ثمره يشبه بعضاً وبعضه لا يشبه بعضاً ، فالتّشابه ممّا تقارب لونه أو طعمه أو شكله ممّا يتطلّبه النّاس من أحواله على اختلاف أميالهم ، وعدم التّشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلّبه النّاس من الصّفات على اختلاف شهواتهم ، فمن أعواد الشّجر غليظ ودقيق ، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن ، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك ، وهذا كقوله تعالى : { ونفضّل بعضها على بعض الأكل } [ الرعد : 4 ] . والمقصود من التّقييد بهذه الحال التّنبيه على أنّها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة .

ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدّم من قوله : { نخرج منه حبّاً متراكباً } ، فإنّ جميع ذلك مشتبه وغير متشابه . وجعله الزمخشري حالاً من { الزّيتون } لأنّه المعطوف عليه وقدّر ل { الرمّان } حالاً أخرى تدلّ عليها الأولى ، بتقدير : والرمّان كذلك . وإنّما دعاه إلى ذلك أنّه لا يَرى تعدّدَ صاحب الحال الواحدة ولا التّنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوففٍ في قول الأزرق بن طَرفة الباهلي ، جواباً لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القُشيري : أنتَ لِصّ ابنُ لِصّ :

رَمَاني بأمر كنتُ منه ووالدي *** بَريئاً ومن أجللِ الطَّوِي رَماني

ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأنّ التّنبيه إلى ما في بعض النّبات من دلائل الاختيار يوجّه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها .

وجملة : { انظروا إلى ثمره } بيان للجمل الّتي قبلها المقصودِ منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته ، والضّمير المضاف إليه في { ثمره } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { مشتبهاً } من تخصيص أو تعميم . والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره .

والثَمَر : الجَنَى الّذي يُخرجه الشّجر . وهو بفتح الثّاء والميم في قراءة الأكثر ، جمع ثَمَرة بفتح الثّاء والميم وقرأه حمزة والكسائي وخلَف بضمّ الثّاء والميم وهو جمع تَكسير ، كما جمعت : خَشبة على خُشُب ، وناقة على نُوق .

واليَنْعُ : الطِّيبُ والنّضج . يقال : يَنَع بفتح النّون يَيْنع بفتح النّون وكسرها ويقال : أيْنَع يُونِع يَنْعا بفتح التّحتيّة بعدها نون ساكنة .

و { إذا } ظرف لحدوث الفعل ، فهي بمعنى الوقت الّذي يبتدىء فيه مضمون الجملة المضاف إليها ، أي حين ابتداء أثماره . وقوله : { وينعه } لم يقيّد بإذا أينع لأنّه إذَا ينع فقد تمّ تطوّره وحان قطافه فلم تبق للنّظر فيه عبرة لأنّه قد انتهت أطواره .

وجملة : { إنّ في ذلكم لآيات } علّة للأمر بالنّظر . وموقع ( إنّ ) فيه موقع لام التّعليل ، كقول بشّار :

إنّ ذاك النّجَاحَ في التّبْكير

والإشارة ب { ذلكم } إلى المذكور كلّه من قوله { وهو الّذي أنزل من السّماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء إلى قوله ويَنْعه } فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور ، كما تقدّم في قوله تعالى : { عوان بين ذلك } في سورة [ البقرة : 68 ] .

و{ لقوم يؤمنون } وصف للآيات . واللاّم للتّعليل ، والمعلّل هو ما في مدلول الآيات من مضمّن معنى الدّلالة والنّفع . وقد صرّح في هذا بأنّ الآيات إنّما تنفع المؤمنين تصريحاً بأنّهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله : { لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] وقوله { لقوم يفقهون } [ الأنعام : 98 ] ، وإتماماً للتّعريض بأنّ غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين .