تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي : يعطون من أنفسهم مما أمروا به ، ما آتوا من كل ما يقدرون عليه ، من صلاة ، وزكاة ، وحج ، وصدقة ، وغير ذلك ، { و } مع هذا { قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي : خائفة { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : خائفة عند عرض أعمالها عليه ، والوقوف بين يديه ، أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله ، لعلمهم بربهم ، وما يستحقه من أصناف العبادات .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

ثم بين - سبحانه - صفتهم الرابعة فقال : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } .

قرأ القراء السبعة { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإعطاء ، والوجل : استشعار الخوف . يقال : وَجِل فلان وَجَلاً فهو واجل ، إذا خاف ، أى : يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين : لقد أدركنا أقواماً كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها .

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : أى : يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا فى القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط .

كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : " يا رسول الله { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } هو الذى يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله - عز وجل - ؟

قال : " لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذى يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله - تعالى - " " .

ثم قال - رحمه الله - وقد قرأ آخرون : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ . . } من الإتيان . أى : يفعلون ما فعلوا وهم خائفون . . .

والمعنى على القراءة الأولى - وهى قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر لأنه قال - بعد ذلك - : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين .

وجملة { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } حال من الفاعل فى قوله - تعالى - { يُؤْتُونَ } .

وجملة { أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } تعليلية بتقدير اللام ، وهى متعلقة بقوله : { وَجِلَةٌ } .

أى : وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث أقوالهم وأعمالهم ، وهم - لقوة إيمانهم - يخشون التقصير فى أى جانب من جوانب طاعتهم له - عز وجل - .

وقد جاءت هذه الصفات الكريمة - كما يقول الإمام الرازى - فى نهاية الحسن ، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغى ، والثانية : دلت على قوة إيمانهم بآيات ربهم ، والثالثة دلت على شدة إخلاصهم ، والرابعة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات يأتى بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير ، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين ، رزقنا الله - سبحانه - الوصول إليها .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلََئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : والّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا والذين يعطون أهل سُهْمان الصدقة ما فرض الله لهم في أموالهم . ما آتَوْا يعني : ما أعطوهم إياه من صدقة ، ويؤدّون حقوق الله عليهم في أموالهم إلى أهلها . وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول : خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون ، فلا ينجيهم ما فعلوا من ذلك من عذاب الله ، فهم خائفون من المرجع إلى الله لذلك ، كما قال الحسن : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبجر ، عن رجل ، عن ابن عمر : يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : الزكاة .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : المؤمن ينفق ماله وقلبه وَجِلٌ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي الأشهب ، عن الحسن ، قال : يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : يعملون ما عملوا من أعمال البرّ ، وهم يخافون ألاّ ينجيهم ذلك من عذاب ربهم .

حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : المؤمن ينفق ماله ويتصدّق وقلبه وَجِل أنه إلى ربه راجع .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن أنه كان يقول : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنا . ثم تلا الحسن : إنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبّهِمْ مُشْفِقُونَ إلى : وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنّهُمْ إلى رَبّهِمْ رَاجِعُونَ وقال المنافق : إنما أوتيته على علم عندي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة : يُؤْتُونَ ما آتَوْا قال : يُعطون ما أعطوا . وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول : خائفة .

حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا النضر بن شميل ، قال : أخبرنا إسرائيل ، قال : أخبرنا سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : يفعلون ما يفعلون وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت وهي من المبشّرات .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ قال : يُعْطُون ما أعطَوا ويعملون ما عملوا من خير ، وقلوبهم وجلة خائفة .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .

حدثنا عليّ ، قال : ثني معاوية ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ يَأْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يقول : يعملون خائفين .

قال : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : يعطون ما أعطوا فَرَقا من الله ووجلاً من الله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يُؤْتُونَ ما آتَوْا ينفقون ما أنفقوا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : يعطون ما أعطوا وينفقون ما أنفقوا ويتصدّقون بما تصدّقوا وقلوبهم وجلة ، اتقاء لسخط الله والنار .

وعلى هذه القراءة ، أعني على : وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا قرأه الأمصار ، وبه رسوم مصاحفهم وبه نقرأ ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ووفاقه خطّ مصاحف المسلمين .

ورُوي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك ، ما :

حدثناه أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عليّ بن ثابت ، عن طلحة بن عمر ، عن أبي خلف ، قال : دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة ، فسألها عبيد : كيف نقرأ هذا الحرف وَالّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ؟ فقالت : «يَأْتُونَ ما أتَوْا » .

وكأنها تأوّلت في ذلك والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله . وكأنها تأوّلت في ذلك : والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله ، كالذي :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمر بن قيس ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : قالت عائشة : يا رسول الله «وَالّذِينَ يَأْتُونَ مَا أتَوْا وَقُلوبُهُم وَجِلَةٌ » هو الذي يذنب الذنب وهو وجل منه ؟ فقال : «لا ، وَلَكِنْ مَنْ يَصُومُ وَيُصَلّي ويَتَصَدّقُ وَهُوَ وَجِلٌ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن مالك بن مِغْول ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، أن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهم الذين يُذنبون وهم مشفقون وَيَصُومُونَ وَهُمْ مُشْفِقُونَ ؟

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا ليث ، عن مغيث ، عن رجل من أهل مكة ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله : الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قال : فذكر مثل هذا .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول ، عن عبد الرحمن بن سعيد ، عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله الّذِينَ يَأْتُونَ ما أتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ؟ قال : «لا يا ابْنَةَ أبي بَكْرٍ أو يا ابْنَةَ الصّدّيقِ وَلَكِنّهُ الرّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلّي وَيَتَصَدّقُ ، وَيخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنْهُ » .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، وهشيم عن العوّام بن حَوْشب جميعا ، عن عائشة ، أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «يا ابْنَةَ أبي بَكْرٍ أو يا بْنَةَ الصّدّيقِ هُمُ الّذِينَ يُصَلّونَ وَيَفْرَقُونَ أنْ لا يُتَقَبّلَ منْهُمْ » . و «أنّ » من قوله : أنّهُمْ إلى رَبّهِمْ رَاجِعُونَ : في موضع نصب ، لأن معنى الكلام : وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ من أنهم ، فلما حذفت «مِنْ » اتصل الكلام قبلها ، فنصبت . وكان بعضهم يقول : هو في موضع خفض ، وإن لم يكن الخافض ظاهرا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

وقوله { والذين يؤتون ما آتوا } على قراءة الجمهور ، يعطون ما أعطوا وقال الطبري : يريد الزكاة المفروضة وسائر الصدقة ، وروي نحوه عن ابن عمر ومجاهد ع وإنما ضمهم إلى هذا التخصيص أن العطاء مستعمل في المال على الأغلب ، قال ابن عباس وابن جبير : هو عام في جميع أعمال البر ، وهذا أحسن كأنه قال : والذين يعطون من أنفسهم في طاعة الله ما بلغه جهدهم ، وقرأت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وقتادة والأعمش «يأتون ما أتوا » ومعناه يفعلون ما فعلوا ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8507]} وذهبت فرقة إلى أن معناه من المعاصي ، وذهبت فرقة إلى أن ذلك في جميع الأعمال طاعتها ومعصيتها وهذا أمدح ، وأسند الطبري عن عائشة أنها قالت يا رسول الله قوله تعالى { يؤتون ما آتوا } هي في الذي يزني ويسرق قال «لا يا بنت أبي بكر بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل يخاف أن لا يتقبل منه »{[8508]} .

قال القاضي أبو محمد : ولا نظر مع الحديث ، و «الوجل » نحو الإشفاق والخوف وصورة هذا الوجل أما المخلط فينبغي أن يكون أبداً تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد بتخليطه ، وأما التقي والتائب فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت ، وفي قوله تعالى { أنهم إلى ربهم راجعون } تنبيه على الخاتمة ، وقال الحسن : معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم ع وهذه عبارة حسنة ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : المؤمن يجمع إحساناً وشفقة والمنافق يجمع إساءة وأمناً ، وقرأ الجمهور «أنهم » بفتح الألف والتقدير بأنهم أو لأنهم أو من أجل أنهم ويحتمل أن يكون قوله { وجلة } عاملة في «أن » من حيث إنها بمعنى خائفة .

وقرأ الأعمش «إنهم » بالكسر على إخبار مقطوع في ضمنه تخويف ، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم يبادرون إلى فعل الخيرات .


[8507]:أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أشته وابن الأنباري معا في "المصاحف"، والدارقطني في "الأفراد"، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن عبيد بن عمير أنه سأل عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية {والذين يؤتون ما آتوا} أو {والذين يأتون ما أتوا} فقالت: أيهما أحب إليك؟ قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعا، قالت: أيهما؟ قلت: {والذين يأتون ما أتوا}، فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف. (الدر المنثور). ولنا وقفة أمام هذا وخصوصا ما ذكر عن تحريف الهجاء؛ لأنه لو كان الأمر تحريف لما غفل عنه القراء والمحققون، لأنهم أصحاب غيرة على القرآن بالذات، وعلى الحقيقة في أي رواية، وهم دائما يتحرون وجه الصواب في كل ما يروى وينقل حتى ولو كان في غير القرآن، وإذا فالأمر أمر رواية لا تحريف. ولو كان الأمر أمر تحريف فلنا أن نسأل: هل وقع هذا التحريف في بعض المصاحف أم في كل المصاحف؟ لو أن هذا التحريف وقع في بعض المصاحف فكيف اتفق عليه كل القراء أو أكثرهم بهذه الصورة؟ وكيف لم يقرأ "بالصواب" إلا قلة ضئيلة؟ هل يعقل أن تتفق الكثرة على الخطأ وأن يكون الصواب موضع اتجاه القلة؟ ولو أن هذا التحريف وقع في جميع المصاحف لما كان تحريفا، بل هو اتفاق وإجماع، ولا يمكن أن نقول عنه تحريف. ولو تصورنا أن التحريف وارد في [آتوا] لأن الفرق بين رسم المدة فوق الألف فيها وبين رسم الهمزة في [أتوا] لما كان واردا أبدا في قوله تعالى [يؤتون]، لأن الفرق في الرسم بينها وبين الرسم في [يأتون] واضح قوي لا يتأتى معه الخطأ من القارئ وبخاصة في القرآن الكريم. ومن ناحية أخرى يقول الفراء: "ولو صحت هذه القراءة عن عائشة رضي الله عنها لم تخالف قراءة الجماعة؛ لأن الهمز من العرب من يلزم فيه الألف في كل الحالات إذا كتب، فيكتب "سئل الرجل" بألف بعد السين، و "يستهزئون" بألف بين الزاي والواو، "شيء" و "شيء" بألف بعد الياء، فغير مستنكر أن يكتب "يؤتون" بألف بعد الياء، وكلام الفراء يوضح أمرين: أولهما أنه يشك في صحة الرواية بدليل قوله: "ولو صحت"، والثاني أنه يبين السبب في رسم الهمزة على ألف بعد الياء بأن هذه قاعدة يلتزمها بعض العرب، وعليه فتكون القراءة للرسم بالألف هي كالقراءة للرسم بالواو. وإذا تأملنا في رواية ابن جرير الطبري في تفسيره نراه ينقلها عن أبي خلف، وفيها يقول: "دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فسألها عبيد: كيف نقرأ هذه الحرف {والذين يؤتون ما آتوا}، فقالت: {يأتون ما أتوا}، وكأنها تأولت في ذلك: والذين يفعلون ما يفعلون من الخيرات وهم وجلون من الله. وليس فيها أنها سألته وأنه أجاب، ثم قالت: أشهد...الخ... لأنه من غير المعقول أن تسأل عائشة رضي الله عنها أحدا مثل هذا السؤال، والقرآن ليس على هوى الناس، فهو توقيف من الله فكيف نجعله عرضة للأهواء والميول؟ هذا السؤال نفسه يجعلنا نشك في هذه الرواية، ونؤيد رواية أبي خلف التي ينص فيها على أن عائشة رضي الله عنها تأولت الآية، فهو فهم منها وتأويل. وقد روي الحديث عن أبي مليكة أنها قالت: لأن تكون هذه الآية كما أقرأ أحب إلي من حمر النعم، فقال لها ابن عباس رضي الله عنهما ما هي؟ فقالت: {والذين يؤتون ما آتوا} ـ هكذا في الدر المنثور. فكيف نجمع بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى، مع ملاحظة أن كلمة التحريف والتصحيف كلمة عرفت وألفت بعد عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم تكن الكتابة والقراءة في أيامها بالكثرة التي حدثت بعد ذلك ودخل فيها التحريف والتصحيف كما اتفق عليه المحققون. فهو في رأينا اصطلاح لاحق ورد على ألسنة بعض الناس وليس من صلب الحديث، وصحيح أنها وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، ولكن من الصحيح أيضا أن عائشة رضي الله عنها لا يمكن أن تقصد هذا المعنى الذي أوردته الآية الكريمة، والله أعلم.
[8508]:رواه أحمد في مسنده، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والذهبي، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد ممن رواه عبد بن حميد، وابن جرير، والفريابي، وابن أبي الدنيا في "نعت الخائفين"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ} (60)

معنى : { يؤتون ما آتوا } يُعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله . قال تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى } [ البقرة : 177 ] الآية وقال : { وويل للمشركين الذين لا يُؤتُون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] . واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا .

وإنما عُبر ب { ما آتوا } دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعاً وليعم القليل والكثير ، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب .

وجملة { وقلوبهم وجلة } في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها ، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجَلاً وخوفاً من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضياً عنهم ، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات ، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين . وفي الحديث « أن أهل الصّفة قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم . قال : أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون به ، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة » .

وقال أبو مسعود الأنصاري : لما أمرنا بالصدقة كما نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به . ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً } [ الإنسان : 8 10 ] الآيات .