ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم ، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها ، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي . قال { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } أي : عندهم { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس ، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم ، واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر ، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها ، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم ، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا ، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك ، كما قال تعالى : { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر } الآيات .
ثم بين - سبحانه - أن ما جاء به القرآن في شأن مريم - بل وفي كل شأن من الشؤون - هو الحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو من أنباء الغيب التى لا يعلمها أحد سواه فقال - تعالى - : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } .
واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى ما تقدم الحديث عنه من قصة امرأة عمران وقصة زكريا وغير ذلك من الأخبار البديعة .
والأنباء : جمع نبأ ، وهو الخبر العظيم الشأن .
والغيب : مصدر غاب ، وهو الأمر المغيب المستور الذى لا يعلم إلا من قبل الله - تعالى - .
ونوحيه : من الإيحاء وهو إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي ، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء وبمعنى الإلهام أى : ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد ، فيما يتعلق بما قالته امرأة عمران وما قاله زكريا ، وما قالته الملائكة لمريم وفيما يتعلق بغير ذلك من شؤون ذلك القصص الحكيم هو من أنباء الغيب التي لا يعلمها أحد سوى الله - عز وجل - وقد أخبرناك بها لتكون دليلا على صدقك فيما تبلغه عن ربك ولتكون عبرة وذكرى لقوم يعقلون .
وقوله { ذلك } مبتدأ وخبره قوله - تعالى - { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب . وقوله { نُوحِيهِ إِلَيكَ } جملة مستقلة مبينة للأولى . والضمير في { نُوحِيهِ } يعود إلى الغيب أى الأمر والشأن أنا نوحى إليك الغيب ونعلمك به ، ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار .
ولذ قال - تعالى - { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } والأقلام جمع قلم وهى التى كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل المراد بها السهام .
أى وما كنت - يا محمد - لديهم أى عندهم معاينا لفعلهم وما جرى من أمرهم فى شأن مريم ، { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } التى جعلوا عليها علامات يعرف بها من يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون فيما بينهم بسببها تنافسا في كفالتها .
وقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب الكشاف من أن مريم بعد أن ولدتها أمها خرجت بها إلى بيت المقدس فوضعتها عند الأحبار وقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ! ! فقالوا : هذه ابنة إمامنا عمران - وكان في حياته يؤمهم في الصلاة ، فقال لهم زكريا : أدفعوها إلي فأنا أحق بها منكم فإن خالتها عندى - فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فتولى كفالتها زكريا - عليه السلام - . فالمضمير فى قوله { لَدَيْهِمْ } يعود على المتنازعين في كفالة مريم لأن السياق قد دل عليهم .
والمقصود من هذه الجملة الكريمة { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } الخ تحقيق كون الإخبار بما ذكر إنما هو عن وحي من الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معاصرا لهؤلاء الذين تحدث القرآن عنهم . ولم يقرأ أخبارهم في كتاب من الكتب ، ومع ذلك فقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم بالحق الذى لا يستطيعون تكذيبه إلا على سبيل الحسد والجحود ، فثبت أن القرآن من عند الله - تعالى - .
{ ذَلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : ذلك الأخبار التي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم وزكريا ، وابنه يحيى ، وسائر ما قصّ في الاَيات من قوله : { إنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا } ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله ذلك ، فقال : هذه الأنباء من أنباء الغيب : أي من أخبار الغيب . ويعني بالغيب ، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطلع أنت يا محمد عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه حجة على نبوّته ، وتحقيقا لصدقه ، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين الذين يعلمون أن محمدا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه ، إذ كان معلوما عندهم أنه محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب فيقرأ الكتب فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب ، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قِبَلهم .
وأما الغيب : فمصدر من قول القائل : غاب فلان عن كذا ، فهو يغيب عنه غَيْبا وغيبةً .
وأما قوله : { نُوحيهِ إِلَيْكَ } فإن تأويله : ننزله إليك ، وأصل الإيحاء : إلقاء الموحي إلى الموحَى إليه ، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء وبإلهام وبرسالة ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَأوْحَى رَبّكَ إلى النّحْلِ } بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال :
{ وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيّينَ } بمعنى : ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما ، وكما قال الراجز :
*** أوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرّتِ ***
بمعنى : ألقى إليها ذلك أمرا ، وكما قال جلّ ثناؤه : { فأوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا } بمعنى : فألقى ذلك إليهم أيضا ، والأصل فيه ما وصفت من إلقاء ذلك إليهم . وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء ، ويكون بكتاب ، ومن ذلك قوله : { وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ } يلقون إليهم ذلك وسوسة ، وقوله : { وأُوحِيَ إليّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } : ألقي إليّ بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عزّ وجلّ . وأما الوحي : فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب وحيا ، لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه ، كما قال كعب بن زهير :
أتَى العُجْمَ والاَفاقَ منهُ قَصائِدٌ *** بَقِينَ بَقاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأَصَمّ
يعني به الكتاب الثابت في الحجر . وقد يقال في الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى ، بغير ألف ، ومنه قول رؤبة :
كأنّهُ بَعْدَ رِياح تَدْهَمَهُ *** وَمُرْثَعِنّاتِ الدّجُونِ تَثِمُهْ
*** إنجيلُ أحْبارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ***
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ } : وما كنت يا محمد عندهم ، فتعلم ما نعلمكه من أخبارهم التي لم تشهدها ، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه .
ومعنى قوله { لَدَيْهِمْ } : عندهم ، ومعنى قوله { إذْ يُلْقُونَ } : حين يلقون أقلامهم . وأما أقلامهم فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم ، على ما قد بينا قبل في قوله : { وَكَفّلَها زَكَرِيّا } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام بن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } : زكريا وأصحابه استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلت عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } : كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم ، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا ، وكان زوج أختها ، فكفلها زكريا ، يقول : ضمها إليه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ } قال : تساهموا على مريم أيهم يكفلها ، فقرعهم زكريا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ، وإن مريم لما وضعت في المسجد ، اقترع عليها أهل المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها ، فقال الله عزّ وجلّ لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } : اقترعوا بأقلامهم أيهم يكفل مريم ، فقرعهم زكريا .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } قال : حيث اقترعوا على مريم ، وكان غيبا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبره الله .
وإنما قيل : { أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } لأن إلقاء المستهمين أقلامهم على مريم إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ ، ففي قوله عزّ وجلّ : { إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ } دلالة على محذوف من الكلام ، وهو : «لينظروا أيهم يكفل ، وليتبينوا ذلك ويعلموه » .
فإن ظنّ ظانّ أن الواجب في «أيهم » النصب ، إذ كان ذلك معناه ، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أن النظر والتبين والعلم مع أيّ يقتضي استفهاما واستخبارا ، وحظّ «أيّ » في الاستخبار الابتداء ، وبطول عمل المسألة والاستخبار عنه . وذلك أن معنى قول القائل : لأنظرنّ أيهم قام ، لأستخبرنّ الناس أيهم قام¹ وكذلك قولهم : لأعلمنّ . وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى يكفُل يضمّ ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وما كنت يا محمد عند قوم مريم ، إذ يختصمون فيها أيهم أحقّ بها وأولى ، وذلك من الله عزّ وجلّ وإن كان خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فتوبيخ منه عزّ وجلّ للمكذّبين به من أهل الكتابين ، يقول : كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم ، وأنت تنبئهم هذه الأنباء ولم تشهدها ، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور ، ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم ، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم ، لتحقيق نبوّته والحجة عليهم ، لما يأتيهم به مما أخفوا منه .
هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام ، والإشارة ب { ذلك } إلى ما تقدم ذكره من القصص ، والأنباء : الأخبار ، و{ الغيب } ما غاب عن مدارك الإنسان ، و{ نوحيه } معناه نلقيه في نفسك في خفاء ، وحد الوحي إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، ثم تختلف أنواعه ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب ، كما قال كعب بن زهير{[3170]} : [ الطويل ]
أتَى الْعَجم والآفاق مِنْهُ قصائدٌ . . . بَقينَ بقاءَ الوحْي في الْحَجَرِ الأصمْ
تقول العرب : أوحى ، وتقول وحى ، وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام ، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب ، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين ، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم ، ولديهم معناه عندهم ومعهم ، وقد تقدم القول في الأقلام والكفل ، وجمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، وقال ابن إسحاق : إنما كان استهامهم حين نالتهم المجاعة دفعاً منها لتحمل مؤونتها ، و{ يختصمون } معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها ، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه{[3171]} ، وقال عليه السلام : { لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه }{[3172]} ، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قماراً ، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص ، وأما حيث لا يجوز التراضي كعتق العبيد في ثلث الميت فجوزها الجمهور ومنعها أبو حنيفة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين ستة أعبد ، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة{[3173]} ، وقوله : { أيهم يكفل مريم } ابتداء وخبر في موضع نصب بالفعل الذي تقديره ، ينظرون ، { أيهم يكفل مريم } والعامل في قوله { إذ قالت الملائكة } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك}: أن الذي ذكر في هؤلاء الآيات، {من أنباء الغيب}: حديثا من الغيب لم تشهده يا محمد، فذلك قوله: {نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} في القرعة، {أيهم يكفل مريم}: يضم مريم إلى نفسه. {وما كنت لديهم} يا محمد، {إذ يختصمون} في مريم، يعني القراء أيهم يكفلها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك" الأخبار التي أخبر بها عباده عن امرأة عمران وابنتها مريم وزكريا، وابنه يحيى، وسائر ما قصّ في الآيات من قوله: {إنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا} ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله "ذلك"، فقال: هذه الأنباء من أنباء الغيب: أي من أخبار الغيب. ويعني بالغيب، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطلع أنت يا محمد عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه حجة على نبوّته، وتحقيقا لصدقه، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين الذين يعلمون أن محمدا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها إلا بإعلام الله ذلك إياه، إذ كان معلوما عندهم أنه محمدا صلى الله عليه وسلم أمي لا يكتب فيقرأ الكتب فيصل إلى علم ذلك من قِبَل الكتب، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
وأما الغيب: فمصدر من قول القائل: غاب فلان عن كذا...
{نُوحيهِ إِلَيْكَ}: ننزله إليك، وأصل الإيحاء: إلقاء الموحي إلى الموحَى إليه، وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء وبإلهام وبرسالة، كما قال جلّ ثناؤه: {وَأوْحَى رَبّكَ إلى النّحْلِ}: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: {وَإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيّينَ}: ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما، وكما قال جلّ ثناؤه: {فأوْحَى إلَيْهِمْ أنْ سَبّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا}: فألقى ذلك إليهم أيضا، والأصل فيه ما وصفت من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء، ويكون بكتاب، ومن ذلك قوله: {وَإنّ الشّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ}: يلقون إليهم ذلك وسوسة، وقوله: {وأُوحِيَ إليّ هَذَا القُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}: ألقي إليّ بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عزّ وجلّ. وأما الوحي: فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب وحيا، لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه، وقد يقال في الكتاب خاصة إذا كتبه الكاتب وَحَى، بغير ألف. {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلاَمَهُمْ أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}: وما كنت يا محمد عندهم، فتعلم ما نعلمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدرك معرفته بتعريفناكه.
{لَدَيْهِمْ}: عندهم. {إذْ يُلْقُونَ}: حين يلقون أقلامهم. وأما أقلامهم: فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله: {وَكَفّلَها زَكَرِيّا}.
وإنما قيل: {أيّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لأن إلقاء المستهمين أقلامهم على مريم إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ، ففي قوله عزّ وجلّ: {إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ} دلالة على محذوف من الكلام، وهو: «لينظروا أيهم يكفل، وليتبينوا ذلك ويعلموه».
{وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ}: وما كنت يا محمد عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيهم أحقّ بها وأولى، وذلك من الله عزّ وجلّ وإن كان خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخ منه عزّ وجلّ للمكذّبين به من أهل الكتابين، يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم، وأنت تنبئهم هذه الأنباء ولم تشهدها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمور، ولست ممن قرأ الكتب فعلم نبأهم، ولا جالس أهلها فسمع خبرهم... يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوّته والحجة عليهم، لما يأتيهم به مما أخفوا منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ذلك} إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام، يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي...
فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟ وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت: كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة. ونحوه {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44]، {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [القصص: 46]، {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102]... {أقلامهم} أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين...
{إِذْ يَخْتَصِمُونَ} في شأنها تنافساً في التكفل بها...
فإن قلت: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ} بم يتعلق؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم، كأنه قيل: يلقونها ينظرون أيهم يكفل، أو ليعلموا، أو يقولون...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه المخاطبة لمحمد عليه السلام، والإشارة ب {ذلك} إلى ما تقدم ذكره من القصص، والأنباء: الأخبار، و {الغيب} ما غاب عن مدارك الإنسان،... وفي هذه الآية بيان لنبوة محمد عليه السلام، إذ جاءهم بغيوب لا يعلمها إلا من شاهدها وهو لم يكن لديهم، أو من قرأها في كتب أهل الكتاب، ومحمد عليه السلام أمي من قوم أميين، أو من أعلمه الله بها وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، ولديهم معناه عندهم ومعهم،... و {يختصمون} معناه يتراجعون القول الجهير في أمرها، وفي هذه الآية استعمال القرعة والقرعة سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر أقرع بين نسائه، وقال عليه السلام: {لو يعلمون ما في الصف الأول لاستهموا عليه}، وجمهور الأمة على تجويز القرعة إلا من شذ فظنها قماراً، وهذا كله فيما يصلح التراضي بكونه دون قرعة فكأن القرعة محسنة لذلك الاختصاص،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتى نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار الغريبة المحررة العجيبة التي لا يعرفها على وجهها إلا الحذاق من علماء بني إسرائيل كان من حق سامعها أن يتنبه من غفلته ويستيقظ من رقدته، لأنها منبهة بنفسها للمنصف الفطن على أن الآتي بها -والسامع خبير بأنه لم يخالط عالماً قط- صادقاً لا مرية في صدقه في كل ما يدعيه عن الله سبحانه وتعالى، وكان من حق من يتنبه أن يبادر إلى الإذعان فيصرح بالإيمان، فلما لم يفعلوا التفت إلى تنبيه الغبي وتبكيت العتي فقال: {ذلك} أي الخطاب العلي المقام الصادق المرام البديع النظام {من أنباء الغيب نوحيه} أي نجدد إيحاءه في أمثاله {إليك} في كل حين، فما كنت لديهم في هذا الذي ذكرناه لك يوماً على هذا التحرير مع الإعجاز في البلاغة،... {لديهم} قال الحرالي: لدى هي عند حاضرة لرفعة ذلك الشيء الذي ينبأ به عنه -انتهى...
{وما كنت لديهم إذ} أي حين {يختصمون} أي في ذلك حتى نقصّ مثل هذه الأخبار على هذا الوجه السديد- يعني أنه لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء... فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا، وجعل هذا التنبيه في نحو وسط هذه القصص ليكون السامع على ذكر مما مضى ويلقي السمع وهو شهيد لما بقي، وجعله بعد الافتتاح بقصة مريم عليها السلام تنبيهاً على عظم شأنها وأنها المقصودة بالذات للرد على وفد نصارى نجران...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ذلك} الذي قصصناه عليك يا محمد من أخبار مريم وزكريا: {من أنباء الغيب} لم تشهده أنت ولا أحد من قومك، ولم تطلع على شيء منه في الكتاب وإنما نحن: {نوحيه إليك} بإنزال الروح الأمين الذي خاطب مريم وزكريا بما خاطبهما به على قلبك وإلقائه في روعك خبر ما وقع بين بني إسرائيل في ذلك وغير ذلك. فضمير "نوحيه "راجع إلى الغيب: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} أي قداحهم المبرية، فالسهام والأزلام التي يضربون بها القرعة ويقامرون تسمى أقلاما: {أيهم يكفل مريم} أي يستهمون بهذه الأقلام ويقترعون على كفالة مريم، حتى قرعهم زكريا فكان كافلها: {وما كنت لديهم إذ يختصمون} في ذلك ولم يتفقوا على كفالتها إلا بعد القرعة.
قال الأستاذ الإمام: أعقب هذه القصة بهذه الآية الناطقة بأنها من أنباء الغيب وأخر خبر إلقاء الأقلام لكفالة مريم وذكره في سياق نفي حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس القوم ما جرى منهم. ولا بد لهذه العناية من نكتة وقد قالوا في بيانها: إن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم ولم يروها سماعا عن أحد معلوم عند منكري نبوته فلم يبق له طريق للعلم بها إلا مشاهدتها فنفاها تهكما بهم وبذلك تعين أنه لم يبق له طريق لمعرفتها إلا وحي الله تعالى إليه بها. وهذا الجواب منقوض وإن اتفق عليه من نعرف من المفسرين وذلك أن القرآن نطق بأنهم قالوا: {إنما يعلمه بشر} [النحل: 103] و {قالوا أساطير الأولين اكتتبها} [الفرقان: 5].
قال: والصواب أن النكتة في النص على نفي حضور النبي القوم إذ يلقون أقلامهم أي بعد النص على كون القصة من أنباء الغيب هي أن المسألة لم تكن معلومة عند أهل الكتاب فيكون للمنكرين شبهة على أنه أخذها عنهم.
أقول: ويرد على هذا قوله تعالى في آخر قصة يوسف: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} [يوسف: 102] وإذا كان بعض المجاحدين قد ادعوا أنه يعلمه بشر فهذه الدعوى قد ردها القرآن بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} [النحل: 103] ورد أنهم قالوا هذا إذ رأوه يقف على قين (حداد) رومي بمكة وذلك القين لم يكن يحسن العربية، وأنى للقين بمثل هذا العلم؟ عرف العربية أم لم يعرفها.
فالقرآن لا يعتد بتلك الشبهة إذ الأمي الناشئ بين الأميين لا يمكن أن يتلقى أخبار الأولين من حداد ولا من عالم كحبر أو راهب بمجرد وقوفه عليه أو اجتماعه به ولو أمكن ذلك عادة أو عقلا لما كان لعاقل أن يثق بحفظ ذلك القين أو غير القين وبأماناته في النقل ولا يختلف أحد من المنكرين لنبوته صلى الله عليه وسلم في كمال عقله وسمو إدراكه وفطنته. ولا شك في أن إتيانه في هذه القصص بما لا يعرفه أهل الكتاب مما يؤكد دفع تلك الشبهة الواهية ويدعم ذلك الأصل الراسخ وهو كونه صلى الله عليه وسلم أميا نشأ بين أميين لا علم لهم بأخبار الأنبياء مع أممهم كما قال في سورة هود بعد ذكر قصة نوح عليه السلام: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49] وقد سمع كفار قريش هذه الآية وسائر سورتها ولم يقل أحد منهم بل كنا نعلمها. ومثل هذا قوله بعد ذكر قصة موسى وشعيب في سورة القصص: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44] إلى آخر الآيات الثلاث.
أما المجاحدون من أهل الكتاب لا سيما دعاة النصرانية في هذا الزمان فهم يقولون فيما وافق القرآن به كتبهم أنه مأخوذ منها بدليل موافقته لها وفيما خالفها أنه غير صحيح بدليل أنه خالفها وفيما لم يوافقها ولم يخالفها به أنه غير صحيح لأنه لم يوجد عندنا، وهذا منتهى ما يكابر به مناظر وأبطل ما يرد به خصم على خصم. ويقول المسلمون إننا نحتج على أن ما جاء به القرآن هو الحق بما قام من الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مع حفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح. ومن تلك الدلائل التي يشتمل عليها القرآن معرفة قصص الأنبياء مع كونه أميا لم يتعلم شيئا كما تقدم. فهي دليل على صحة نفسها وما جاء فيها مخالفا لما في الكتب السابقة نعده مصححا لما وقع فيها من الغلط والنسيان بانقطاع أسانيدها، حتى أن أعظمها وأشهرها كالأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ولا زمن كتابتها ولا اللغة التي كتبت بها أولا. وقد تقدم الإلماع إلى ذلك من قبل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي. قال {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم} أي: عندهم... {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم}... فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا، فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك، كما قال تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} الآيات...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه قصة مريم في ولادتها، وتهيئتها للآية الكبرى الدالة على ان الخالق فاعل مختار،قد قصها الله جل شأنه في القرآن الذي جاء به أمي لا يقرأ ولا يكتب،لم يتعلم ولم يجلس إلى معلم، ولم يختلط باليهود والنصارى، وفوق ذلك هذه القصة لم تكتب في التوراة قط،ولم يتعرض لها الإنجيل، وجاء بها القرآن الكريم. وهي صادقة كل الصدق فمن أين جاء علم هذا إلى ذلك الأمي؟إنه من عند الله. أشار المولى إلى هذا المعنى بقوله: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك}... الإشارة إلى القصص الحكيم الذي شمل نذر أم مريم، وولادتها،وكفالة زكريا لها،ودعا زكريا وإجابة الله دعاءه،ولزوم مريم للعبادة،وخطاب الملائكة؛ فبين الله سبحانه وتعالى ان هذا القصص من أنباء الغيب،أي من الأخبار العظيمة الشأن التي اختص بها علم الله،وهي مغيبة عن الناس لم يدونها تاريخ،ولم يذكرها كتاب،فهي مغيبة عن علم الناس لا يعلمها أحد إلا من الله تعالى،وهي عظيمة الشأن في مجرى التاريخ الديني،وجرى الفكر الإنساني،... والأنباء جمع نبأ،والنبأ هو الخبر العظيم الشأن،فليس كل خبر يسمى نبأ،والغيب هو الأمر المغيب المستور الذي لا يعلم إلا من قبل الله تعالى...
وقوله: {نوحيه إليك} إشارة إلى موضع الصدق وهو انه بوحي من الله تعالى؛ وهو كالنتيجة لكون الموضوع مغيبا،لم يذكر في واقعة تاريخية ولا في كتاب ديني من قبل،لأنه إذا كان مغيبا عن الناس جميعا فعلمه لا يكون إلا من الله تعالى...
{وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}... والاختصام معناه في الأصل ان يكون كل في خصم أي جانب،والاختصام هنا هو التنافس بينهم في كفالة مريم... والمعنى الجملي للنص الكريم: وما كنت لديهم أي عندهم إذ يختصمون ويتنافسون على كفالة مريم،كل يريدها في كنفه ورعايته،وما كنت لديهم إذ يحتكمون إلى القرعة،ليعرفوا بطريق التفويض للغيب أيهم يكفل مريم فتضم إليه،وقد ذكر سبحانه من قبل ان الكفالة بهذه القرعة آلت إلى زكريا عليه السلام،إذ قال من قبل: {وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا...37} [آل عمران]...
أن "لدى "معناها "عند، و"لدى" هنا تشير إلى معنى ليس في "عند"؛ ذلك انها تشير إلى عندية بعيدة غير حاضرة ولا قريبة في الزمن؛ فهي تشير إلى أن خبر مريم وولادتها خبر بعيد موغل في القدم بالنسبة للإنسان،فما كانت هذه العندية متصورة،وما كان لأحد ان يعلم ما عند القوم علم من يشاهد ويعاين؛ لأن كثيرا منها كان نفسيا قلبيا،وبعضه كان حسيا ماديا ولكن لم يعلم للناس...
ان هذه القصة ليست معلومة على هذا الوجه عند المسيحيين،ولا يسعهم تكذيبها؛ لأنها اقرب إلى العقول مما ينسبونه لمريم من انها كانت ذات بعل،أو مخطوبة او نحو ذلك،فما عندهم مدعاة للشك،وما ذكره القرآن مدعاة للصدق والطهر والنقاء،وهذا الذي يرشح للآية الكبرى بولادتها من غير حمل؛ فأي الخبرين أصدق قيلا؟... وهو ان هذه القصة بما تشير إليه الآية الكريمة: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم} تشير إلى بعض معاني الإعجاز في القرآن الكريم،وهو حكاية أخبار الأولين التي لم يكن يعلمها احد إلا رب العالمين،وهي حكاية دلائل الصدق فيها واضحة،وبينات الحق فيها لائحة؛ وإذا كان النبي لا يعلمها عن مشاهدة ولا عن سماع،فطريق العلم بها هو الله،وهذا يدل على ان القرآن من عند العزيز الحكيم،وهو سجل الشرائع السماوية الخالد إلى يوم القيامة،ولوكره الكافرون،كما قال منزله سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون9} [الحجر]...