{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده ، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات ، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى ، وتلك الجنة فيها{[149]} الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة ، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته ، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه ، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له ، بل هم كل عليه ، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو ، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة ، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن ، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن ، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار ، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء ، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار ، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل ، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما ، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه ، فقال : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }
ثم ساق القرآن آية كريمة حذر فيها الناس من ارتكاب ما نهى الله عنه وبين فيها كيف أن المن والأذى والرياء وما يشبه ذلك من رذائل يؤدي إلى ذهاب الشيء النافع من بين يدي صاحبه وهو أحوج ما يكون إليه . استمع إلى القرآن وهو يصور نهاية هذا الإِنسان البائس .
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ . . . }
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
قوله : { أَيَوَدُّ } هو من الود بمعنى المحبة الكاملة للشيء وتمنى حصوله ، والاستفهام فيه للإِنكار و ( الإِعصار ) ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كالعمود ، وهي التي يسميها بعض الناس زوبعة . وسميت إعصاراً لأنها تعصر ما تمر به من الأجسام ، أو تلتف كما يلتف الثوب المعصور . والريح مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإِعصار فإنه مذكر ولذا قيل { فِيهِ نَارٌ } أي سموم وصواعق .
والمعنى : أيحب أحدكم - أيها المنانون المراءون - أن تكون له جنة معظم شجرها { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } تجري من تحت أشجارها { الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } النافعة ، والحال أنه قد أصابه الكبر الذي أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة اليانعة ، وله فضلا عن شيخوخته وعجزه ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل ، وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة ينزل عليها إعصار فيه نار فيحرقها ويدمرها ففقدها صاحبها وهو أحوج ما يكون إليها وبقى هو وأولاده في حالة شديدة من البؤس والحيرة والغم والحسرة لحرمانه من تلك الحديقة التي كانت محط آماله .
فالآية الكريمة قد اشتملت على مثل آخر لحالة الذين يبطلون أعمالهم وصدقاتهم بالمن والأذى والرياء ، وغير ذلك من الأفعال القبيحة والصفات السيئة فقد شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الحسنة ثم يضم إليها ما يفسدها فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة ذاهبة ، شبه هذ الإِنسان في حسرته وألمه وحزنه بحال ذلك الشيخ الكبير العاجز الذي له ذرية ضعفاء لا يملك سوى حديقة يانعة يعتمد عليها في معاشه هو وأولاده فنزل عليها إعصار فيه نار فأحرقها ودمرها تدميراً .
وحذف - سبحانه - حالة المشبه وهو الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء وما يشبه ذلك ، لظهورها من المقام .
وقد وصف - سبحانه - تلك الجنة بثلاث صفات :
وصفها أولا : بأنها من نخيل وأعناب أي معظمها من هذين الجنسين النفيسين اللذين هما أنفع الفواكه وأجملها منظراً .
ووصفها ثانياً : بأنها تجري من تحتها الأنهار ، أي تجري من تحت أشجارها الأنهار التي تسر النفس . وتبهج القلب ، وتزيد في حسن الجنة وبهائها .
أما صاحبها فقد وصفه - سبحانه - بأنه قد أصابه الكبر وله ذريه ضعفاء أي أنه في منتهى الاحتياج إليها لكبر سنه وعجزه عن الاكتساب من غيرها ولمسئوليته عن الإنفاق على أولاد صغار لا يعولهم أحد سواه .
تلك هي حالة الجنة وحالة صاحبها في احتياجه إليها ، فمادذا حدث بعد ذلك ؟ لقد أصابها { إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت } فماذا يكون حال هذا الإِنسان الذي أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء وهو يرى جنته ومحط أمله قد احترقت وهو في أشد الحاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ؟
إن الكلمات لتعجز عن تصوير ما يصيب هذا البائس من غم وهم وحزن وحسرة ، وهو يرى جنته قد احترقت وهو في أشد أوقاته حاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ! ؟
ولكأن الله - تعالى - يقول للناس بعد هذا التصوير البديع المؤثر : احذروا أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بإرتكابكم لما نهى الله عنه ، فلا تجدون لها نفعاً يوم القيامة وأنتم في أشد الحاجة إليها في هذا اليوم العصيب ، لأنكم إذا فعلتم ذلك كان مثلكم في التحسر والحزن كمثل هذا الشيخ الكبير الذي احترقت جنته وهو في أشد الحاجة إليها .
وإنه لتصوير قرآني في أسمى درجات البلاغة والتأثير ، وفي أعلى ألوان التأديب والتهذيب .
قال القرطبي : روى البخاري عن عبيد بن عمير قال : " قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت وهي قوله - تعالى - : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } الآية . قالوا الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا نعمل أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلا لرجل غني عمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق عمله . وروى ابن أبي مليكه أن عمر تلا هذه الآية وقال : هذا مثل ضربه الله للإِنسان يعمل عملا صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل العمل السيء " .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
أي : كما يبين الله في هذه الآية ما يهديكم وينفعكم يبين لكم آياته وهداياته في سائر أمور دينكم لكي تتفكروا فيما يصلحكم ، وتعملوا ما يرضى خالقكم .
{ أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ }
يعني تعالى ذكره { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى كالّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا } { أَيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ وأصَابَهُ الكِبرُ } . . . الآية .
( ومعنى قوله : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ } أيحبّ أحدكم أن تكون له جنة يعني بستانا من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار يعني من تحت الجنة وله فيها من كل الثمرات . والهاء في قوله : { لَهُ } عائدة على أحد ، والهاء والألف في : { فِيها } على الجنة ، { وَأَصَابَهُ } يعني وأصاب أحدكم الكبر ، { وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ } . وإنما جعل جل ثناؤه البستان من النخيل والأعناب ، الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين : أيودّ أحدكم أن تكون له مثلاً لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس ، لا ابتغاء مرضاة الله ، فالناس بما يظهر لهم من صدقته ، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر ، يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عزّ وجلّ لعمله مثلاً من نخيل وأعناب ، له فيها من كل الثمرات ، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا ، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا ، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذرّيته ، ويكتسب به المحمدة وحسن الثناء عند الناس ، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها ، فله في ذلك من كل خير في الدنيا ، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلاً بعمله ، بأن فيها من كل الثمرات ، ثم قال جل ثناؤه : { وأصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ } يعني أن صاحب الجنة أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء صغار أطفال ، { فأصَابَها } يعني فأصاب الجنة إعصار فيه نار ، { فَاحْتَرَقَتْ } يعني بذلك أن جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار في حال حاجته إليها ، وضرورته إلى ثمرتها بكبره وضعفه عن عمارتها ، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها ، فبقي لا شيء له أحوج ما كان إلى جنته وثمارها بالاَفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار . يقول : فكذلك المنفق ماله رياء الناس ، أطفأ الله نوره ، وأذهب بهاء عمله ، وأحبط أجره حتى لقيه ، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله ، حين لا مستَعْتَب له ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة ، واضمحلّ عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذرّيته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه .
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية نظير المثل الاَخر الذي ضربه لهم بقوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا } .
وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية ، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدة إلى المعنى الذي قلنا في ذلك ، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولاً فيها السدي .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَه جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ وَأصَابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ فأصَابَها إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ } هذا مثل آخر لنفقة الرياء ، أنه ينفق ماله يرائي الناس به ، فيذهب ماله منه وهو يرائي ، فلا يأجره الله فيه ، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى نفقته ، وجدها قد أحرقها الرياء ، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته ، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته ، فلم يجد منها شيئا ، فكذلك المنفق رياء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ } كمثل المفرّط في طاعة الله حتى يموت ، قال يقول : أيودّ أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير ، لا يغني عنها شيئا ، وولده صغار لا يغنون عنها شيئا ، وكذلك المفرّط بعد الموت كل شيء عليه حسرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
) حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، قال : سأل عمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدا يشفيه ، حتى قال ابن عباس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئا ، قال : فتلفت إليه ، فقال : تحوّل ههنا ! لمَ تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة ، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره ، واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله فحرّقه أحوج ما كان إليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن محمد بن سليم ، عن ابن أبي مليكة ، أن عمر تلا هذه الآية : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ } قال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحا ، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول : سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فيم ترون أنزلت { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ } ؟ فقالوا : الله أعلم ! فغضب عمر ، فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم ! فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين . فقال عمر : قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك ! قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعمل . قال عمر : أيّ عمل ؟ قال : لعمل . فقال عمر : رجل عُنِيَ بعمل الحسنات ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها قال : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدّث نحو هذا عن ابن عباس ، سمعه منه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير ، قال ابن جريج : وسمعت عبد الله بن أبي مليكة ، قال : سمعت ابن عباس ، قالا جميعا : إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال عمر : للرجل يعمل بالحسنات ، ثم يبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء عنها . ثم قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قالا : ضربت مثلاً للأعمال .
قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ضربت مثلاً للعمل يبدأ فيعمل عملاً صالحا ، فيكون مثلاً للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، ثم يسيء في آخر عمره ، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك ، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة ، مثلاً لإساءته التي مات وهو عليها . قال ابن عباس : الجنة عيشه وعيش ولده فاحترقت ، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره ، ولم يستطع ذرّيته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت . يقول : هذا مثله تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ ، فلا يجد له عندي شيئا ، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا ، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة ، كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات .
قال ابن جريج ، عن مجاهد : سمعت ابن عباس قال : هو مثل المفرّط في طاعة الله حتى يموت .
قال ابن جريج وقال مجاهد : أيودّ أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله ، كمثل هذا الذي له جنة ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئا وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئا ، وكذلك المفرط بعد الموت كل شيء عليه حسرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ } . . . الآية . يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة ، كذلك يبين الله لكم الاَيات لعلكم تتفكرون ، فهذا مثل . فاعقلوا عن الله جلّ وعزّ أمثاله ، فإنه قال : { وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها للنّاسِ وَما يَعْقِلُها إلاّ العالِمُونَ } . هذا رجل كبرت سنة ودقّ عظمه وكثر عياله ، ثم احترقت جنته على بقية ذلك كأحوج ما يكون إليه . يقول : أيحبّ أحدكم أن يضلّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه ؟
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ } إلى قوله : { فاحْتَرَقَتْ } يقول : فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سنه وضعف عن الكسب ، وله ذرية ضعفاء لا ينفعونه . قال : وكان الحسن يقول : فاحترقت فذهبت أحوج ما كان إليها ، فذلك قوله : أيودّ أحدكم أن يذهب عمله أحوج ما كان إليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ضرب الله مثلاً حسنا ، وكل أمثاله حسن تبارك وتعالى . وقال : قال أيوب . { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ } إلى قوله : { فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ } يقول : صنعه في شبيبته فأصابه الكبر وله ذرّية ضعفاء عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار ، فأحرق بستانه ، فلم يكن عنده قوّة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه . وكذلك الكافر يوم القيامة إذا رد إلى الله تعالى ليس له خير فيُسْتَعْتَب كما ليس له قوّة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجد خيرا قدم لنفسه يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده ، وحرم أحره عند أفقر ما كان إليه كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذرّيته . وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا ، كيف نجى المؤمن في الاَخرة ، وذخر له من الكرامة والنعيم ، وخزن عنه المال في الدنيا ، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطع ، وخزن له من الشرّ ما ليس بمفارقه أبدا ويخلد فيها مهانا ، من أجل أنه فخر على صاحبه ووثق بما عنده ولم يستيقن أنه ملاق ربه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { أيَوَدّ أحَدَكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ } . . . الآية . قال : هذا مثل ضربه الله { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلً وَأعْنابٍ . . . فِيها مِنْ كُلّ الثّمَرَاتِ } والرجل قد كبر سنه وضعف وله أولاد صغار ، وابتلاهم الله في جنتهم ، فبعث الله عليها إعصارا فيه نار فاحترقت ، فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر ، ولا ولده لصغرهم ، فذهبت جنته أحوج ما كان إليها . يقول : أيحبّ أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت ، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوج ما كان إليه ، فيقول ابن آدم : أتيتني أحوج ما كنت قط إلى خير ، فأين ما قدّمت لنفسك ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى } ثم ضرب ذلك مثلاً ، فقال : { أَيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وأعْنابٍ } حتى بلغ { فأصَابَها إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ } قال : جرت أنهارها وثمارها ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، أيودّ أحدكم هذا ؟ فما يحمل أحدكم أن يخرج من صدقته ونفقته حتى إذا كان له عندي جنة وجرت أنهارها وثمارها ، وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { أيَوَدّ أحَدُكُمْ أنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ } رجل غرس بستانا فيه من كل الثمرات ، فأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره ، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه ، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته . فهذا مثل ضربه الله للكافر ، يقول : يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه ، فلا يجد له عندي خيرا ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئا .
وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه ، لأن الله جل ثناؤه تقدم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم . ثم ضرب مثلاً لمن منّ وآذى من تصدّق عليه بصدقة ، فمثله بالمرائي من المنافقين ، المنفقين أموالهم رياء الناس . وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل نظيرة ما ضرب لهم من المثل قبلها ، فكان إلحاقها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثل ما لم يجر له ذكر قبلها ولا معها .
فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : { وَأصَابَهُ الكِبَرُ } وهو فعل ماض فعطف به على قوله { أيَودّ أحَدُكُمْ } ؟ قيل¹ إن ذلك كذلك ، لأن قوله : { أَيَوَدّ } يصحّ أن يوضع فيه «لو » مكان «أن » فلما صلحت بلو وأن ومعناهما جميعا الاستقبال ، استجازت العرب أن يردّوا «فَعَلَ » بتأويل «لو » على «يفعَل » مع «أن » ، فلذلك قال : فأصابها ، وهو في مذهبه بمنزلة «لو » إذا ضارعت «أن » في معنى الجزاء ، فوضعت في مواضعها ، وأجيبت «أن » بجواب «لو » و«لو » بجواب «أن ، فكأنه قيل : أيودّ أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب ، تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر .
فإن قال : وكيف قيل ههنا : وله ذرية ضعفاء ؟ وقال في النساء : { وَلْيَخْشَ الّذِي لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } ؟ قيل : لأن «فعيلاً » يجمع على «فعلاء » و«فِعال » ، فيقال : رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف . وأما الإعصار : فإنه الريح العاصف ، تهبّ من الأرض إلى السماء كأنها عمود ، تجمع أعاصير ، ومنه قول يزيد بن مُفَرّغ الحميريّ :
أناسٌ أجارُونا فكانَ جِوَارُهُمْ أعاصيرَ من سُوءِ العِراقِ المُنذّر
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } فقال بعضهم : معنى ذلك : ريح فيها سموم شديدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ } ريح فيها سموم شديدة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس في : { إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ } قال : السموم الحارة التي خلق منها الجان التي تحرق .
حدثنا حميد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس { فأصَابَها إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ } قال : هي السموم الحارّة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ } التي تقتل .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عمن ذكره ، عن ابن عباس ، قال : إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ } هي ريح فيها سموم شديد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ } قال : سموم شديد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ } يقول : أصابها ريح فيها سموم شديدة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، نحوه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ } أما الإعصار فالريح ، وأما النار فالسموم .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ } يقول : ريح فيها سموم شديد .
وقال آخرون : هي ريح فيها برد شديد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : كان الحسن يقول في قوله : { إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحْتَرَقَتْ } فيها صِرّ وبرد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { إعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ } يعني بالإعصار ريح فيها برد .
( القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : كما بين لكم ربكم تبارك وتعالى أمر النفقة في سبيله ، وكيف وجهها ، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها ، كذلك يبين لكم الاَيات سوى ذلك ، فيعرفكم أحكامها وحلالها وحرامها ، ويوضح لكم حججها ، إنعاما منه بذلك عليكم { لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ } يقول : لتتفكروا بعقولكم فتتدبروا وتعتبروا بحجج الله فيها ، وتعملوا بما فيها من أحكامها ، فتطيعوا الله به . )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، قال : قال مجاهد : { لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ } قال : تطيعون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ } يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الاَخرة وبقائها .
{ أيود أحدكم } الهمزة فيه للإنكار . { أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغلبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع . { وأصابه الكبر } أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر . { وله ذرية ضعفاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب . { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى . والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا . { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
حكى الطبري عن السدي أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء ، ورجح هو هذا القول ، وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] ، ثم قال ضرب في ذلك مثلاً فقال : { أيود أحدكم } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين من الذي رجح الطبري( {[2611]} ) ، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء ، هذا هو مقتضى سياق الكلام ، وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ، فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئاً( {[2612]} ) ، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا الله ورسوله أعلم ، فقال وهو غاضب قولوا نعلم أو لا نعلم ، فقال له ابن عباس هذا مثل ضربه الله كأنه قال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير ، فإذا فني عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء ، فرضي ذلك عمر( {[2613]} ) ، وروى ابن أبي مليكة أن عمر تلا هذه الآية : { أيود أحدكم } ، وقال : هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ، عمل عمل السوء( {[2614]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها ، وقال بنحو هذا مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم( {[2615]} ) ، وخص النخيل والأعناب بالذكر( {[2616]} ) لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر . وقرأ الحسن «جنات » بالجمع ، وقوله { من تحتها } هو تحت بالنسبة إلى الشجر( {[2617]} ) ، والواو في قوله { وأصابه } واو الحال( {[2618]} ) ، وكذلك في قوله : { وله } و { ضعفاء } جمع ضعيف وكذلك ضعاف ، وال { إعصار } الريح الشديدة العاصف التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه ، يكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها كما تضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ، وإن النار اشتكت إلى ربها »( {[2619]} ) ، الحديث بكماله ، فإما أنه نار على حقيقته وإلا فهو نفسها يوجد عنه كاثرها ، قال السدي : الإعصار الريح ، والنار السموم( {[2620]} ) ، وقال ابن عباس ريح فيها سموم شديدة ، وقال ابن مسعود إن السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءاً من النار .
قال القاضي أبو محمد : يريد من نار الآخرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن { إعصار فيه نار } ريح فيها صر ، برد ، وقاله الضحاك ، وفي المثل : إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً( {[2621]} ) ، والريح إعصار لأنها تعصر السحاب ، والسحاب معصرات إما أنها حوامل فهي كالمعصر من النساء وهي التي هي عرضة للحمل( {[2622]} ) وإما لأنها تنعصر بالرياح ، وبهذا فسر عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي ، وحكى ابن سيده أن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب ، وقال الزجاج : الإعصار الريح الشديدة تصعد من الأرض إلى السماء وهي التي يقال لها الزوبعة ، قال المهدوي : قيل لها { إعصار } لأنها تلتف كالثوب إذا عصر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2623]} ) ، والإشارة بذلك إلى هذه الأمثال المبينة ، { ولعلكم } ترجّ في حق البشر ، أي إذا تأمل من يبين له هذا البيان رجي له التفكر وكان أهلاً له . وقال ابن عباس { تتفكرون } في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها .