{ 116 ْ } { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ْ }
لما ذكر تعالى ، إهلاك الأمم المكذبة للرسل ، وأن أكثرهم منحرفون ، حتى أهل الكتب الإلهية ، وذلك كله يقضي على الأديان بالذهاب والاضمحلال ، ذكر أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا ، من أهل الخير يدعون إلى الهدى ، وينهون عن الفساد والردى ، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان ، ولكنهم قليلون جدا .
وغاية الأمر ، أنهم نجوا ، باتباعهم المرسلين ، وقيامهم بما قاموا به من دينهم ، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم ، ليهلك من هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة{[438]}
{ و ْ } لكن { اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ْ } أي : اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف ، ولم يبغوا به بدلا .
{ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ْ } أي : ظالمين ، باتباعهم ما أترفوا فيه ، فلذلك حق عليهم العقاب ، واستأصلهم العذاب . وفي هذا ، حث لهذه الأمة ، أن يكون فيهم بقايا مصلحون ، لما أفسد الناس ، قائمون بدين الله ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويبصرونهم من العمى .
وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون ، وصاحبها يكون ، إماما في الدين ، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآيات الدالة على سنن الله - تعالى - فى خلقه ، وعلى الحكم التى من أجلها ساق الله - تعالى - تلك القصص فى كتابه فقال - تعالى - :
{ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ . . . } .
قوله - تعالى - { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ . . . } إرشاد إلى أن الأمم إذا خلت من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، حلت بها المصائب والنكبات . .
ولولا : حرف تحضيض بمعنى هلا . والمقصود بالتحضيض هنا تحذير المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - ومن سيأتى بعدهم من الوقوع فيما وقع فيه أهل القرون الماضية من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، حتى لا يصيب اللاحقين ما أصاب السابقين .
والقرون : جمع قرن ، والمراد به الأمة من الناس الذين يجمعهم زمان واحد ، والراجح أن القرن مائة عام .
و { أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } أى : أصحاب مناقب حميدة ، وخصال كريمة ، وعقول راجحة . . .
وأصل البقية : ما يصطفيه الإِنسان لنفسه من أشياء نفيسة يدخرها لينتفع بها ، ومنه قولهم : فلان من بقية القوم ، أى : من خيارهم وأهل الفضل فيهم ، قال الشاعر :
إن تذنبوا ثم تأتينى بقيتكم . . . فما على بذنب منكم فوت
وفى الأمثال : فى الزوايا خبايا ، وفى الرجال بقايا .
والفساد فى الأرض : يشمل ما يكون فيها من المعاصى واختلال الأحوال وارتكاب المنكرات والبعد عن الصراط المستقيم .
والمعنى : فلا وجد من أولئك الأقوام الذين كانوا من قبلكم ، رجال أصحاب خصال كريمة ، وعقول سليمة ، تجعلهم هذه الخصال وتلك العقول ينهون أنفسهم وغيرهم عن الإِفساد فى الأرض ، وعن انتهاك الحرمات ؟
كلا إنهم لم يكن فيهم هؤلاء الرجال الذين ينهون عن الفساد فى الأرض ، إلا عددا قليلا منهم أنجيناهم بسبب إيمانهم عن الفساد فى الأرض .
وفى هذا من التوبيخ لأهل مكة ولكل من تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما فيه ، لأن الله - تعالى - بين أن عذاب الاستئصال الذى حل بالظالمين السابقين ، كان من أسبابه عدم نهيهم عن الفساد فى الأرض .
قال الشوكانى : والاستثناء فى قوله { إِلاَّ قَلِيلاً . . . } منقطع ، أى : لكن قليلا ممن أنجينا منهم كانوا ينهون عن الفساد فى الأرض ، وقيل : هو متصل ، لأن فى حرف التحضيض معى النفى ، فكأنه قال : ما كان فى القرون أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض ، إلا قليلا من أنجينا منهم ، ومن فى قوله { مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } بيانية ، لأنه لم ينج إلا الناهون .
وقال ابن كثير : ولهذا أمر الله - تعالى - هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، وفى الحديث : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده " ولهذا قال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض . . . }
وقوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ .
. . } إشارة إلى أن هؤلاء القاعدين عن النهى عن الإِفساد فى الأرض ، قد استمروا على فجورهم وفسقهم دون أن يلتفتوا إلى خصال الخير ، وإلى سبيل الصلاح .
وأترفوا من الترف ومعناه التقلب فى نعم الله - تعالى - مع ترك شكره - سبحانه - عليها .
والمترف : هو الشخص الذى أبطرته النعمة ، فانغمس فى الشهوات والمعاصى ، وأعرض عن الأعمال الصالحة . .
والجملة الكريمة معطوفة على كلام مقدر يقتضيه الكلام ، والمعنى : أن هؤلاء الذين لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد فى الأرض إلا من استثنى ، قد استمروا فى طغيانهم واتبعوا ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنئ والشهوت العاجلة ، فكفروا النعمة ، واستكبروا وفسقوا عن أمر ربهم ، وكانوا قوما مجرمين ، أى مصرين على ارتكاب الجرائم والمنكرات ، فحق عليهم العقاب الذى يستحقونه بسبب هذه السيئات .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مّمّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي وكفرهم برسلي من قبلكم . { أولُو بَقِيّةٍ } ، يقول : ذو بقية من الفهم والعقل ، يعتبرون مواعظ الله وبتدبرون حججه ، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله وعليهم في الكفر به ، { يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ } ، يقول : ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم أهل الكفر بالله عن كفرهم به في أرضه . { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، يقول : لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا يسيرا ، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض ، فنجاهم الله من عذابه ، حين أخذ من كان مقيما على الكفر بالله عذابه ، وهم أتباع الأنبياء والرسل . ونصب { قليلاً } لأن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } استثناء منقطع مما قبله ، كما قال : { إلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا } ، وقد بيّنا ذلك في غير موضع بما أغنى عن إعادته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : اعتذر فقال : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ . . . } ، حتى بلغ : { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله . وقرأ : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيه } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَةٍ . . . } ، إلى قوله : { إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، قال : يستقلهم الله من كل قوم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألني بلال ، عن قول الحسن في العذر ، قال : فقال : سمعت الحسن يقول : { قِيلَ يا نُوحُ اهْبطْ بَسلامٍ مَنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعلى أُمَمٍ ممّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمّ يَمَسّهُمْ مِنّا عَذَابٌ أليمٌ } ، قال : بعث الله هودا إلى عاد ، فنجى الله هودا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون . وبعث الله صالحا إلى ثمود ، فنجى الله صالحا وهلك المتمتعون . فجعلت أستقريه الأمم ، فقال : ما أراه إلا كان حسن القول في العذر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ فِي الأرْضِ إلاّ قَلِيلاً مِمّنْ أنجَيْنا مِنْهُمْ } ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض ، إلاّ قليلاً ممن أنجينا منهم .
وقوله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، يقول تعالى ذكره : واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، قال : ما أُنْظروا فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ } ، من دنياهم .
وكأن هؤلاء وجهوا تأويل الكلام : واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربهم من نعيم الدنيا ولذاتها ، إيثارا له على عمل الاَخرة وما ينجيهم من عذاب الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : واتبع الذين ظلموا ما تجبروا فيه من الملك وعتوا عن أمر الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { واتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيه } ، ِ قال : في ملكهم وتجبرهم ، وتركوا الحقّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه ، إلا أنه قال : وتركهم الحقّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثل حديث محمد بن عمرو سواء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله ، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذّات الدنيا ، فاستكبروا ، وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذّات الدنيا ، فاستكبروا عن أمر الله ، وتجبروا ، وصدّوا عن سبيله ؛ وذلك أن المترف في كلام العرب : هو المنعم الذي قد غَذّى باللذات ، ومنه قول الراجز :
تُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفِينَ الصّدّادْ *** إلى أمِيرِ المُؤمِنِينَ المُمْتادْ
وقوله : وكانُوا مُجْرِمِينَ يقول : وكانوا مكتسي الكفر بالله . )
{ فلولا كان } فهلا كان . { من القرون من قبلكم أولو بقيّةٍ } من الرأي والعقل ، أو أولو فضل وإنما سمي { بقية } لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه ، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ويجوز أن يكون مصدرا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب ، ويؤيده أنه قرئ { بقية } وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه . { ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجينا منهم } لكن قليلا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك ، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض . { واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه } ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك . { وكانوا مجرمين } كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة ، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر ، وقوله واتبع معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى : فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على { اتبع } أو اعترض . وقرئ " واتبع " أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء .