{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }
كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي : مواساة الفقراء ، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط ، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة ، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد :
منها : أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم ؛ ويبدأ بالأهم فالأهم ، والأسهل فالأسهل .
ومنها : أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام ، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم .
وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال ، غير اللائق فيها ذلك ، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام ، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك ، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا : { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله ، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال ، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره ، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا : { لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر ، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها ، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها ، بل يكون قليل الصبر . ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي : التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل ، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها ؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك ، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير منها ، في ذاتها ، ولذاتها وزمانها ، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- " أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . ولذاتها صافية عن المكدرات ، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة ، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال الله على لسان نبيه : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .
وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم ، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه .
وأما زمانها ، فإن الدنيا منقضية ، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير ، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها ، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور ، عرف ما هو أحق بالإيثار ، والسعي له والاجتهاد لطلبه ، ولهذا قال : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي : اتقى الشرك ، وسائر المحرمات . { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } أي : فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ( 77 ) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ( 78 ) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 79 ) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ( 80 )
والإِستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حال أولئك الذين كانوا يظهرون التشوق إلى القتال فلما فرض عليهم جبنوا عنه .
وقوله { كفوا أَيْدِيَكُمْ } من الكف بمعنى الامتناع أى : امتنعوا عن مباشرة القتال إلى أن تؤمروا به .
والمعنى : ألم ينته علمك يا محمد أو ألم تنظر بعين الدهشة والغرابة إلى حال أولئك الذين كانوا يظهرون شدة الحماسة للقتال ، فقيل لهم { كفوا أَيْدِيَكُمْ } أى : عن القتال لأنكم لم تؤمروا به بعد { وَأَقِيمُواْ الصلاة } فإن الصلاة تخلص النفس من أدران المآثم ، وتجعلها تتجه إلى الله وحده { وَآتُواْ الزكاة } فإن الزكاة تظهر النفوس من الشح والبخل ، وتربط بين الناس برباط المحبة والتعاون .
ثم بين - سبحانه - حالهم بعد أن فرض عليهم القتال فقال : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } .
أى : فحين فرض عليهم القتال وأمروا بمباشرته بعد أن صارت للمسلمين دولة بالمدينة ، حين حدث ذلك ، إذا فريق منهم - وهم الذين قل إيمانهم ، وضعف يقينهم ، وارتابت قلوبهم - { يَخْشَوْنَ الناس } أى يخافونهم خوفا شديدا { كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أى : يخافون من الكفار أن يقتلوهم كما يخافون من الله أن ينزل بهم بأسه ، أو أشد من ذلك .
فالمراد بالناس فى قوله { يَخْشَوْنَ الناس } أولئك الأعداء الذين كتب الله على المؤمنين قتالهم .
وعبر عن هؤلاء الأعداء بقوله { الناس } زيادة فى توبيخ أولئك الذين خافوا منهم هذا الخوف الشديد ، لأنهم لو كانوا مؤمنين حقا ، لاستقبلوا ما فرضه الله عليهم بالسمع والطاعة ، ولما خافوا هذا الخوف الشديد من أناس مثلهم .
وقوله { كَخَشْيَةِ الله } مفعول مطلق ، أي يخشونهم خشية كخشية الله .
وهو بيان لشدة خورهم وهلعهم ، ولفساد تفكيرهم ، حيث جعلوا خشيتهم للناس فى مقابل خشيتهم لله ، الذى يجب أن تكون خشيته - سبحانه - فوق كل خشية .
وقوله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } معطوف على ما قبله . وأشد حال من خشية لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها أعرب حالا .
وفى هذه الجملة الكريمة زيادة فى توبيخهم وذمهم ؛ وترق فى توضيح حالتهم القبيحة ، لأنه إذا كان من المقرر أنه لا يجوز للعاقل ان يجعل خشيته للناس كخشيته لله ، فمن باب أولى لا يجوز له أن يجعل خشيته للناس أشد من خشيته لله - تعالى - .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فإن قيل : ظاهر { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } يوهم الشك . وذلك على علام الغيوب محال . أجيب بأن { أَوْ } بمعنى بل . أو هى للتنويع . على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها أو هى للإِبهام على السامع . على معنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة .
وهو قريب مما فى قوله - تعالى - : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } يعنى أن من يبصرهم يقول : أنهم مائة ألف أو يزيدون .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله أولئك الضعفاء عندما فرض عليهم القتال فقال : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } .
أى : أن هؤلاء الضعفاء لم يكتفوا بما اعتراهم من فزع وجزع عندما كتب عليهم القتال وإنما أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل الضجر والألم : يا ربنا لم كتبت علينا القتال فى هذا الوقت { لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أى : هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت موتة لا قتال معها عند حضور آجالنا ، دون أن نتعرض لهذا التكليف الثقيل المخيف .
وهكذا يصور القرآن تخبط هؤلاء الضعفاء أكمل تصوير . إنهم قبل أن يفرض القتال يظهرون التحمس له ، والتشوق لخوض معا معه ، فإذا ما فرض عليهم القتال فزعوا وارتعدوا وقالوا ما قالوا من ضلال بضيق وهلع .
ويبدو أن هذه طبيعة أكثر المتهورين فى كل وقت ، إنهم قبل أن يجد الجد أشد الناس حماسة للقاء الأعداء ، فإذا ماجد الجد ووقعت الواقعة كانوا أول الفارين ، وأول الناكصين على أعقابهم .
وذلك لأن الشجعان العقلاء لا يتمنون لقاء الأعداء ، ولا ينشئون القتال إنشاء ، وإنما يقدرون الأمور حق قدرها ، ويضعون الأشياء فى مواضعها ، فإذا ما اقتضت الضرورة خوض معركة من المعارك ثبتوا ثبات الأبطال .
أما المندفعون بدون إيمان يدفعهم ، أو عقل يرشدهم ، فإنهم لعدم تقديرهم للأمور يكونون فى ساعة الشدة أول الناس جزعا ونكولا وانهيارا .
ولكن من هؤلاء الذين تحدثت عنهم الآية الكريمة ووصفتهم بأنهم حين كتب عليهم القتال { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ؟ ! !
إن الذى يراجع أقوال المفسرين يرى أن بعضهم يميل إلى أن الآية الكريمة فى شأن المؤمنين ، ويرى أن بعضهم يرجع أنها فى شأن المنافقين ، وقد لخص الإِمام الرازى هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال :
" هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين ؟ فيه قولان :
الأول : أن الآية نزلت فى المؤمنين . قال الكلبى : نزلت فى عبد الرحمن بن عوف ، والمقداد ، وقدامة بن مظعون ، وسعد بن أبى وقاص . كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجروا إلى المدينة ، ويلقون من المشركين أذى شديدا ، فيشكون ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقولون : ائذن لنا فى قتالهم ويقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كفوا أيديكم فإنى لم أومر بقتالهم ، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية .
ثم قال : واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم : كفوا عن القتال هم الراغبون فى القتال ؛ والراغبون فى القتال هم المؤمنون ، فدل هذا على أن الآية فى حق المؤمنين .
. وأن كراهتهم للقتال إنما هى بمقتضى الجبلة البشرية . . . وقولهم { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال } محمول على التمنى فى التخفيف للتكليف لا على وجه الإِنكار لإِيجاب الله تعالى .
ثم قال : والقول الثانى : أن الآية نازلة فى حق المنافقين . واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين ، لأن الله وصفهم بأنهم { يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافقين ، لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله - تعالى - ولأنه - سبحانه - حكى عنهم أنهم قالوا : ربنا لما كتبت علينا القتال ، والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار أو المنافقين ، ولأن الله قال للرسول : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته فى الدنيا أكثر من رغبته فى الآخرة ، وذلك من صفات المنافقين ثم قال : والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه - سبحانه - ذكر بعد هذه الآية قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } ولا شك أن هذا من كلام المنافقين ، فإذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التى نحن فى تفسيرها ثم المعطوف فى المنافقين ، وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا .
ونحن نوافق الإِمام الرازى فيما ذهب إليه من حمل الآية الكريمة على أنها فى المنافقين هو الأولى للأسباب التى ذكرها .
ونضيف إلى ما ذكره الإِمام الرازى أن المتأمل فى سياق الآيات السابقة واللاحقة يراها واضحة فى شأن النافقين ، ومن هم على شاكلتهم من ضعاف الايمان ، الذين أدى بهم ضعف نفوسهم ، وحبهم للدنيا إلى كراهة القتال ، والخوف من تكاليفه . . . .
فأنت إذا قرأت الآيات التى قبيل هذه الآية تراها تتحدث عن إرادة تحاكمهم إلى الطاغوت مع زعمهم الايمان بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل على الرسل من قبله . وتراها تتحدث عن تباطئهم عن القتال وفرحهم لنجاتهم من مخاطره .
ثم إذا قرأت الآيات التى ستأتى بعد هذه الآية تراها تتحدث عن نسبتهم الحسنة إلى الله ، ونسبتهم السيئة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعن إذاعتهم لأسرار المؤمنين . . ألخ ، فثبت أن الآية الكريمة تتحدث عن صفات المنافقين ، وعمن هم قريبو الشبه بهم من ضعاف الايمان الذين أخلدوا إلى الراحة . وأثروا القعود فى بيوتهم على القتال من أجل إعلاء كلمة الله ، ودفع الظلم عن المظلومين .
ونضيف أيضا أن القول الأول - الذى ذكره الإِمام الرازى وهو أن الآية نزلت فى المؤمنين - غير صحيح لأسباب من أهمها :
1- أن الرواية التى ذكرها الامام الرازى نقلا عن الكلبى وهى أن الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون .
. الخ الرواية يبدو عليها الضعف ، لأنها لم ترد فى كتب الحديث الموثوق بها ، ولأن الكبلى نفسه قد عرف عنه عدم التثبت فى النقل . ولقد علق الإِمام الشيخ محمد عبده على هذه الرواية بقوله : " إننى أجزم ببطلان هذه الرواية مهما كان سندها ، لأننى أبرئ السابقين الأولين كسعد وعبد الرحمن مما رموا به . وهذه الآية متصلة بما قبلها ، فإن الله - تعالى - أمر بأخذ الحذر والإِستعداد للقتال ، والنفر له ، وذكر حال المطبئين لضعف قلوبهم . وبعد هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أمر الإسلام أتباعه بالسلم وتهذيب النفوس بالعبادة والكف عن الاعتداء والقتال . . إلى أن اشتدت الحاجة إليه ففرضه الله عليهم فكرهه الضعفاء منهم .
2- أن المؤمنين لم يعهد عنهم ما ذكرت الآية من خوف من القتال ، ومن تمن لعدم حضوره ، وإنما المعهود عنهم أنهم كانوا يبادرون إليه كلما اقتضت الضرورة ويتسابقون لخوض ساحته دفاعا عن دينهم ، وانتصارا ممن بغى عليهم .
ولقد قال المقداد بن عمرو للرسول صلى الله عليه سولم . فى غزوة بدر يا رسول الله ، إمض لما أمرك الله فنحن معك . والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون . ولكن نقول لك إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . .
إلى غير ذلك من الأقوال والمواقف التى تدل على شجاعتهم وقوة إيمانهم .
ولقد رجح الإِمام القرطبى عند تفسيره للآية الكريمة أنها فى المنافقين فقال : قال مجاهد : هى فى اليهود . وقال الحسن : هى فى المؤمنين لقوله " يخشون الناس " أى مشركى مكة " كخشية الله " فهى على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة . وقال السدى : هم قوم أسملوا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه . وقيل : هو وصف للمنافقين . والمعنى : يخشون القتل من المشركين كما يشخون الموت من الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أى عندهم وفى اعتقادهم .
ثم قال : قلت وهذا أشبه بسياق الآية لقوله ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابى كريم ، يعلم أن الآجال محدودة ، والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين ، يرون الوصول الى الدار الآجلة خيرا من المقام فى الدار العاجلة ، على ما هو المعروف من سيرتهم - رضى الله عنهم - اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ فى الإِيمان قدمه ، ولا انشرح بالاسلام جنانه ، فإن أهل الإِيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص ، وهو الذى تنفر نفسه عما تؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة .
والخلاصة : أن الذى تطمئن إليه نفوسنا أن الآية الكريمة تحكى ما كان عليه المنافقون وضعاف الإِيمان ، من بعد عن طاعة الله ، ومن جبن فى النفوس ومن حب للحياة الدنيا وزينتها .
وأن المؤمنين بعيدون كل البعد عما اشتملت عليه الآية الكريمة من صفات وأحوال ؛ لأن ما عرف عنهم من إيمان وإقدام ينأى بهم عن أن يكونوا ممن قال الله فيهم { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } وعن أن يقولوا : { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } .
هذا ، وقوله - تعالى - { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } رد على التصرفات الذميمة ، والأقوال الفاسدة التى صدرت عن المنافقين وضعاف الإِيمان ! وإرشاد من الله - تعالى - لعباده إلى أن متاع الحياة الدنيا قليل بالنسبة لما اشتملت عليه الآخرة من نعيم للمؤمنين الصادقين .
والمتاع : اسم لما يتمتع به الإِنسان فى هذه الحياة من مال وغيره .
والفتيل : هو الخيط الدقيق الذى يكون فى شق نواة التمرة . ويضرب به المثل فى القلة والتفاهة .
والمعنى : قل - يا محمد - لهؤلاء الذين يخشون لقاء الأعداء ، ويفزعون من القتال طمعا فى التمتع بزينة الحياة الدنيا ، قل لهم : إن منافع الدنيا ولذاتها قليلة مهما كبرت فى أعينكم ؛ لأنها زائلة فانية ، أما الآخرة بما فيها من نعيم دائم فهى خير ثوابا ، وأعظم أجراً لمن اتقى الله ، وجاهد فى سبيله . وإذا كان الأمر كذلك فاجعلوا خشيتكم من الله وحده ، وبادروا إلى الجهاد فى سبيل إعلاء كلمة الله ، لكى تنالوا الثواب الجزيل من الله دون أن يذهب من ثوابكم شيئا مهما كان هذا الشئ ضئيلا أو قليلا ، ودون أن ينقص من أعماراكم شيئا ؛ لأن الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإِقدام لا ينقص شيئا منها .