تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا} (91)

ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق :

فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [ على ] ذلك ، إحداهما{[220]}  من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم ، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال .

والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي : بقوا ، لا تسمح أنفسهم بقتالكم ، ولا بقتال قومهم ، وأحبوا ترك قتال الفريقين ، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم ، وذكر الحكمة في ذلك في قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام :

إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم ، وهذا متعذر من هؤلاء ، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين ، وهو أهون الأمرين عليكم ، والله قادر على تسليطهم عليكم ، فاقبلوا العافية ، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك .

فهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا }

الفرقة الثالثة : قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم ، وهم الذين قال الله فيهم : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي : من هؤلاء المنافقين . { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي : خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم ، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم ، وازداد كفرهم ونفاقهم ، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية ، وفي الحقيقة مخالفة لها .

فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم ، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما ، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين ، فإنهم مستعدون{[221]}  لانتهازها ، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم ، فإنهم يقاتلون ، ولهذا قال : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : حجة بينة واضحة ، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة ، فلا يلوموا إلا أنفسهم .


[220]:- كذا في ب، وفي أ: أحدها.
[221]:- في ب: سيقدمون.

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَـٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا} (91)

ثم بين - سبحانه - صنفا آخر غير هؤلاء المسالمين ، وهم قوم من المنافقين المخادعين ، الذين لا يضمرون للمؤمنين إلا شرا ، ولا يمدون أيديهم إلى أهل الحق إلا بالسوء فقال - تعالى - : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا } .

أى : ستجدون - أيها المؤمنون - قوما من المنافقين آخرين غير الذين وصفتهم لكم ، { يُرِيدُونَ } بإظهارهم للإِسلام { أَن يَأْمَنُوكُمْ } على أنفسهم ، ويريدون بإظهارهم للكفر { أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } من الأذى ، ومن صفات هؤلاء المخادعين أنهم { كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أى : كلما دعوا إلى الردة وإلى العصبية البغيضة وقعوا فيها أشنع وقوع ، وزجعوا إليها منكوسين على رءوسهم .

قال ابن جرير : عن مجاهد قال : هم ناس كانوا يأتون النبى صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون فى الأوثان . يبتغون بذلك أن يأمنا ههنا وههنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا .

ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء المنافقين المخادعين فقال : { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم ويكفوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } .

أى : أن هؤلاء المنافقين إن لم يعتزلوا قتالكم والتعرض لكم بسوء ، ويلقوا إليكم الأمان والانقياد ، ويمتنعوا عن العدوان عليكم ، إن لم يفعلوا ذلك فخذوهم أسرى ، واقتلوهم حيث { ثَقِفْتُمُوهُمْ } أى : وجدتموهم وظفرتم بهم . يقال ثقفت الرجل فى الحرب اثقفه ، إذا أدركته وظفرت به وقوله { وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أى أولئك الذين وصفتهم لكم جعل الله لكم حجة واضحة فى أخذهم وقتلهم ، بسبب ظهور عداوتهم ، وانكشاف غدرهم ، وتذبذبهم بين الإِسلام والكفر تبعا لشهوات نفوسهم المريضة .

هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الأربعة الكريمة يراها قد رسمت للمؤمنين كيف تكون علاقتهم بغيرهم من المنافقين والمشركين .

فهى تأمرهم - أولا - بأن يقفوا من المنافقين الذين أركسهم الله بما كسبوا صفا واحدا ورأيا واحدا ، فلا يدافعون عنهم ولا يحسنون الظن بهم ، ولا يولونهم ولا يستعينون بهم ، حتى يهاجروا فى سبيل الله ، فإن امتنعوا عن الهجرة حل أخذهم وقتلهم .

وتأمرهم - ثانياً - بأن يسالموا - إلى حين - قوما التجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأمان ، وأن يسالموا كذلك أولئك الذين يأتون إليهم وهم يكرهون قتالهم أو قتال قومهم ، وأظهروا الانقياد والاستسلام للمؤمنين .

وتأمرهم - ثالثا - بأن يأخذوا ويقتلوا أولئك المتلاعبين بالعقيدة والدين ولذين بلغ بهم الغدر والخداع أنهم إذا قدموا المدينة أظهروا الإِسلام ، فإذا ما عادوا إلى مكة أو إلى قومهم أظهروا الكفر ، وكانوا مع قومهم ضد المسلمين .

وإنها لتوجيهات حكيمة تبصر المؤمنين بما يجب عليهم نحو غيرهم من الناس الذين يخالفونهم فى عقيدتهم .

وبعد هذا الحديث الحكيم الذى بين الله - تعالى - فيه أحوال المنافقين ، وصفاتهم الذميمة ، وموقف المؤمنين ممن يخالفونهم فى العقيدة ، بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة فى بيان حكم القتل الخطأ ، وحكم القتل العمد فقال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ . . . عَذَاباً عَظِيماً } .