{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
أي : لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله ، ففيه الحث على الخروج للجهاد ، والترغيب في ذلك ، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر .
وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به ، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر ، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [ وجود ] المانع ، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك ، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر .
ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه ، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد ، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل .
ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة ، أي : الرفعة ، وهذا تفضيل على وجه الإجمال ، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل ، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم ، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير ، واندفاع كل شر .
والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في " الصحيحين " أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله .
وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد ، نظير الذي في سورة الصف في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة .
وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها ، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره ، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات .
وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح ، أو النزول من حالة إلى ما دونها ، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس .
وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء ، وكل منهما له فضل ، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
وكما [ قال تعالى ] في الآيات المذكورة في الصف في قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : ممن لم يكن كذلك .
ثم قال : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة .
وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض ، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال . كما إذا قيل : النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك : وكل منهما كافر .
والقتل أشنع من الزنا ، وكل منهما معصية كبيرة ، حرمها الله ورسوله وزجر عنها .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بأن يعاملوا الناس على حسب ظواهرهم ونهاهم عند جهادهم عن التعجل فى القتل . أتبع ذلك ببيان فضل المجاهدين المخلصين فقال - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي . . . . غَفُوراً رَّحِيماً } .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ( 95 ) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( 96 )
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون } . شروع فى الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه ، وليرغبوا عما يوجب خللا فيه . والمراد بالقاعدين : الذين أذن لهم فى القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم . وروى البخارى عن ابن عباس : هم القاعدون عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل . وقال أبو حمزة : إنهم المتخلفون عن تبوك . وروى أن الآية نزلت فى كعب بن مالك من بنى سلمة ومرارة بن الربيع من بنى عمرو بن عوف . وهلال بن أمية من بنى واقف حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم فى تلك الغزوة .
وقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } جملة معترضة جئ بها لبيان أنهم غير مقصودين بعدم المساواة مع المجاهدين فى الأجر .
والضرر : مصد ضرِر مثل مرض . وهذه الزنة تجئ - غالبا - فى العاهات ونحوها ، مثل عمى وحصر وعرج ورِمد .
والمراد بقوله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } أى : غير أصحاب العلل والأمراض التى تحول بينهم وبين الجهاد فى سبيل الله من عمى أو عرج أو ضعف أو غير ذلك من الأعذار .
وقد روى المفسريون فى سبب نزول قوله - تعالى - { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } روايات منها ما أخرجه البخارى عن البراء قال : لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها جاء ابن أم مكتوب فشكا ضرارته . فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } .
وقال القرطبى : روى الأئمة - واللفظ لأبى داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذى فما وجدت ثقل شئ أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سرى عنه فقال : " أكتب " فكتبت فى كتف - أى فى عظم عريض كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم - { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله } . . . . الآية .
فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة فوقعت فخذه على خفذى . ووجدت من ثقلها فى المرة الثاينة كما وجدت فى المرة الأولى ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت : { لا يستوى الأقاعدون من المؤمنين } . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } الاية كلها .
قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها . والذى نفسى بيده لكأنى أنظر إلى ملحقها عند صدع فى كتف .
والمعنى : لا يستوى عند الله - تعالى - الذين قعدوا عن الجهاد لإِعلاء كلمة الحق دون أن يكون عندهم من الأعذار ما يمنعهم من ذلك ، لا يستوى هؤلاء مع الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم . أما الذين قعدوا عن الجهاد لأعذار تمنعهم عن مباشرته ، فإن نيتهم الصادقة سترفع منزلتهم عند الله - تعالى - ، وستجعلهم فى مصاف المجاهدين بأموالهم وأنفسهم أو قريبين منهم .
ويشهد لذلك ما رواه البخارى وأبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وهو يسر إلى تبوك : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه . قالوا : يا رسول الله ، وهم بالمدينة قال : نعم حبسهم العذر " .
قال ابن كثير : وفى هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد . . . سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر . . . ومن أقام على عذر كمن راحا
وقوله : { لاَّ يَسْتَوِي } نفى لاستواء المجاهدين والقاعدين ، والمقصود بهذا النفى التعريض بالمفضول لتفريطه وزهده فى الخير ، وحض على الاقتداء بمن هو أفضل منه ، إذ من المعروف أن القاعد عن الجهاد لا يساوى المجاهد فى الفضل والثواب . فتعين أن يكون المراد بهذا التعبير التعريض بالقاعدين ليتأسوا بالمجاهدين ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله :
فإن قلت : معلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان فما فائدة نفى الاستواء ؟ قلت : معناه الإِذكار بما بينهما من التفاوت العظيم ، والبون البعيد ، ليأنف القاعد ويترفع بنفسه عن انحطاط منزلته . فيهتز للجهاد ويرغب فيه ، وفى ارتفاع طبقته ، ونحوه : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أريد به التحريك من الجهل إلى التعلم . ولينهض الشخص بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم .
وقوله { مِنَ المؤمنين } جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من القاعدين .
وفائدة قوله : { مِنَ المؤمنين } الإِيذان من أول الأمر بأن قعودهم عن الجهاد لم يمنعهم عن الوصف بالإِيمان ، لأن قعودهم عن الجهاد لم يكن عن نفاق أو عن ضعف فى دينهم ، وإنما كان عن تراخ أو اشتغال ببعض الأمور الدنيوية .
قال الجمل وقوله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم { غَيْرُ } بالرفع : وقرأ الباقون بالنصب . وقرأ الأعمش بالجر .
أظهرما أنه على البدل من { القاعدون } . وإنما كان هذا أظهر لأن الكلام نفى والبدل معه أرجح .
والثاني : أنه رفع على أنه صفة لقوله { القاعدون } لأنهم لما لم يكونوا أناساً بأعيانهم بل أريد بهم الجنس أشبهوا النكرة فوصفوا بها .
وأما النصب فعلى : الاستثناء من { القاعدون } وهو الأظهر ، لأنه المحدث عنه . وأما الجر فعلى أنه صفة للمؤمنين .
وقوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } بيان لمزية المجاهدين على غيرهم .
والمراد بالقاعدين هنا - الذين قعدوا عن الجهاد لسبب مانع من مباشرته أى : فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم من أجل إعزاز دينه ، فضلهم درجة على القاعدين بأعذار ، لأن المجاهدين قد عرضوا أنفسهم للمخاطر والأهوال ، وبذلوا أرواحهم وأمولهم فى سبيل إعلاء كلمة الله .
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوى أى أن المراد بها هو الفضل ، ووفرة الأجر وزيادة الثواب . والتنوين فيها للتعظيم .
قال ابن جرير : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولى الضرر درجة واحدة ، يعنى فضيلة واحدة . وذلك بفضل جهادهم بأنفسهم فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان .
وقوله { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } جملة معترضة جئ بها تاركا لما عسى أن يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول .
أى : وكل واحد من فريقى المجاهدين والقاعدين من أهل الضرر وعده الله المثوبة الحسنى وهى الجنة لحسن عقيدتهم وخلوص نيتهم ، وإنما التفاوت فى زيادة العمل المتقضى لمزيد الثواب .
وقوله { كُلاًّ } مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإِفادة القصر تأكيدا للوعد وتنوينه عوض عن المضاف إليه . وقوله { الحسنى } مفعول ثان .
ثم بين - سبحانه - أنه قد فضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات عظيمة فقال { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } .
أى : وفضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين دون أن يكون هناك عذر يمنعهم عن الجهاد ، فضل الله المجاهدين على هؤلاء القاعدين بالأجر العظيم والثواب الجزيل ، والمنزلة الرفيعة .
وقوله { أَجْراً عَظِيماً } منصوب على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع ، لأن الأجر هو ذلك التفضيل . أو على نزع الخافض أى فضلهم بأجر عظيم . أو على أنه مفعول ثان بتضمين فضل معنى أعطى أى أعطاهم أجرا تفضلا منه .