{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( 112 ) }
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } ، قد قدمنا أن ضرب مضمن معنى جعل ، ولذا عدي إلى مفعولين ، قد اختلف المفسرون هل المراد بهذا قرية معينة ، أو المراد قرية غير معينة . قال الزمخشري : بل كل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، ونحوه في البيضاوي .
قال القرطبي : إنه مثل مضروب لأي قرية كانت على هذه الصفة من سائر القرى ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، ويجوز أن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها .
وذهب الأكثرون إلى الأول وصرحوا بأنها مكية ، وذلك لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : ( اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) ( 1 ) {[1066]} ، فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام ، والثاني أرجح ؛ لأن تنكير قرية يفيد بذلك ، ومكة تدخل في هذا العموم البدلي دخولا أوليا .
وأيضا يكون الوعيد أبلغ والمثل أكمل وغيره مكة مثلها ، وعلى فرض إرادتها ففي المثل إنذار لغيرها من مثل عاقبتها . وعن ابن عباس قال : يعني مكة ، وعن عطية مثله ، وزاد فقال : ألا ترى أنه قال : { ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه } ، قال الواقدي : ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين .
والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتقدير الآية : ضرب الله مثلا لقريتكم ، أي بين الله لها شبها ، ثم وصف بأنها { كَانَتْ آمِنَةً } غير خائفة .
{ مُّطْمَئِنَّةً } ، غير منزعجة ، أي لا يخاف أهلها ولا ينزعجون ، وعن ابن شهاب قال : القرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب .
قلت ولا أدري أي دليل على هذا التعيين ، ولا أي قرينة قامت له على ذلك ، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله ، وأي وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ، كما صح ذلك عن الصادق المصدوق .
وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) . { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } ، أي : ما يرتزق به أهلها . { رَغَدًا } ، أي : واسعا ، يقال : رغد العيش بالضم رغادة : اتسع ولان ، فهو رغد ورغيد ، ورغد ورغد رغدا من باب تعب لغة ، فهو راغد ، وهو في رغد من العيش ، أي : رزق واسع ، وأرغد القوم بالألف : أخصبوا ، والرغيد : الزبد . { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها ، أي : من نواحيها من البر والبحر .
{ فَكَفَرَتْ } ، أي : كفر أهلها { بِأَنْعُمِ اللّهِ } التي أنعم بها عليهم ، وهي جمع نعمة ، كالأشد جمع شدة ، وقيل : كالأدرع جمع درع ، على ترك الاعتداد بالتاء ، وقيل : جمع نعم ، مثل بؤس وأبؤس ، ويحتمل أنه جمع نعماء بفتح النون والمد ، وهي بمعنى النعمة ، وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله .
{ فَأَذَاقَهَا اللّهُ } ، أي : أهلها ، { لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } ، أي : أثرهما ، فقحطوا سبع سنين ، وسمي ذلك لباسا ؛ لأنه يظهر به عليهم من الهزل وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس ، فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة ، وأصلها الذوق بالفم ، ثم استعيرت لمطلق الإيصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين : إدراك اللمس والذوق .
روي أن ابن الراوندي الزنديق ، قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب : هل يذاق اللباس ؟ فقال له ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ، هب أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ما كان نبيا أما كان عربيا ، كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال : فكساها الله لباس الجوع ، أو فأذاقها الله طعم الجوع ، فرد عليه ابن الأعرابي .
وقد أجاب علماء البيان هذا أن تجريد الاستعارة وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف ؛ لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف ؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه غيره ، فكانت الاستعارة مجردة ، ولو قال : فكساها ، كانت مرشحة ، قيل : وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث إنه روعي جانب المستعار له ، فازداد الكلام وضوحا .
قال الرازي : والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال : فأذاقها ، والتقدير : أن الله عرفها لباس الجوع والخوف ، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختيار قال الشاعر :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها
أو يحمل اللبس على المماسة ، أي : فأذاقها الله مساس الجوع { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، أي : فعلنا بهم ما فعلنا بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من بين أظهرهم ، ولم يقل صنعت ؛ لأنه أراد أهل القرية ، قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : " يصنعون " تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.