فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (102)

{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } .

{ واتبعوا } عطف على نبذ { ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } يعني اليهود والتلاوة القراءة ، قال الزجاج على عهد سليمان ، وقيل المعنى في زمن ملكه وقيل في قصصه وصفاته وأخباره ، قال الفراء تصلح " على وفي " في هذا الموضع والأول أظهر وقيل يضمن تتلوا معنى تتقول أي تتقول على ملك سليمان وهذا أولى ، فإن التجوز في الأفعال أولى من التجوز في الحروف ، وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول به فرد الله ذلك عليهم وقال { وما كفر سليمان } يعني بالسحر ولم يعمل به ، وسليمان علم أعجمي فلذلك لم ينصرف ، وقال أبو البقاء فيه العجمة والتعريف والألف والنون وهذا إنما يثبت إذا دخله الاشتقاق والتصريف ، وقد تقدم أنهما لا يدخلان في الأسماء الأعجمية ، وفيه تنزيه سليمان عن السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر ، لأن السحر يوجب ذلك وقالوا إن سليمان ملك الناس بالسحر ، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال { ولكن الشياطين كفروا } أي بتعليمهم قرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم ولكن بالتخفيف ورفع الشياطين والباقون بالتشديد والنصب .

عن ابن عباس قال إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب معها ألف كذبة فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين فأطلع على ذلك سليمان ابن داوود فأخذها فدفنها تحت الكرسي ، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع ، قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر ، فقال { واتبعوا } الآية ، أخرجه الحاكم وصححه .

وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل به ، فأكفره جهال الناس وسبوه ، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم { واتبعوا } الآية .

{ يعلمون الناس السحر } وهو ما يفعل الساحر من الحيل والتخييلات التي يحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء ، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وقيل أصله الخفاء فإن الساحر يفعله خفية ، وقيل أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جبهته ، وقيل أصله الاستمالة لأن من سحرك استمالك ، وقال الجوهري السحر الأخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، والساحر العالم .

وقال الغزالي السحر نوع من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية في مطالع النجوم ، فيتخذ من تلك الخواص هيكل على صورة الشخص المسحور ، ويترصد له وقت مخصوص من المطالع وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ، ويتوصل بسببها إلى الاستغاثة بالشياطين ، ، وتحصل من مجموع ذلك بحكم إجراء الله العادة أحوال غريبة في الشخص المسحور انتهى ، وقد ذكر أبو السعود أنواعا من السحر فليرجع إليه .

وقد اختلف هل له حقيقة أم لا فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ولا حقيقة ، وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر ، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله سبحانه ، والكلام في ذلك يطول ، وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر وثناه بالشرك كما في الصحيحين .

{ و } أي ويعلمون الناس { ما نزل على الملكين } فهو معطوف على السحر ، والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الاعتبار أو هو نوع أقوى منه ، أو على ما تتلو وما بينهما اعتراض أي { واتبعوا ما أنزل } قال السدي هذا سحر آخر خاصموه به فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الأنس فصنع وعمل به كان سحرا { ببابل } أي في بابل وهو اسم أرض أو بلد في سواد العراق أو أرض الكوفة ، قال ابن مسعود وقيل جبل دماويد ، وقيل نهاوند ، وقيل نصيبين ، وقيل المغرب ، ومنع الصرف للعجمة والعلمية أو للتأنيث والعلمية ، سميت بذلك لتبلبل ألسنة الخلائق بها ، والبلبلة التفرقة ، وقيل أن { ما } في قوله { وما أنزل على الملكين } نافية ، والواو عاطفة على قوله { وما كفر سليمان } وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير : وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل .

{ هاروت وماروت } فهاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد والنصب في قوله { ولكن الشياطين كفروا } ذكر ابن جرير ، وأما على قراءة التخفيف والرفع فهو منصوب على الذم وهو بدل بعض ، ومن فسرهما بقبيلتين من الجن يكون عنده بدل كل .

وقال ابن جرير فإن قال لنا القائل وكيف وجه تقديم ذلك ، قيل تقديمه أن يقال واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل ، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان ابن داوود ، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وإن الذي يعلمونهم ذلك رجلان ، أحدهما هاروت والآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم انتهى ، يعني أنه بدل من الناس أي يعلمان الناس خصوصا هاروت وماروت .

وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه : هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل فيها ، ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم وأكثر ما يتعطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله { ومن شر النفاثات في العقد } .

ثم قال : إن قيل كيف يكون اثنان من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع أو أنهما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما ، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن { الملكين } بكسر اللام ، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفة تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنة لعباده على ألسن ملائكته ، وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر ، فإن الله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان { إنما نحن فتنة } ويؤيد ما قال أبو السعود أن مقام وصف الشياطين بالكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلام ، فإن الإبدال في حكم تنحية المبدل منه . وقال هاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ، وقرئ بالرفع على هما هاروت وماروت انتهى المراد منه .

قال ابن جرير : وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان ، وكان عبد الرحمان ابن أبزي يقرؤها { وما أنزل على الملكين داوود وسليمان } وقال الضحاك هما علجان من أهل بابل ، وهاروت وماروت إسمان أعجميان لا ينصرفان وهما سريانيان ، ويجمعان على هواريت ومواريت وهوارية وموارية ، وليس من زعم اشتقاقهما من الهرت والمرت وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما ، ولو كانا مشتقين كما ذكر لانصرفا .

أخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرفت الملائكة على الدنيا فرأت بني آدم يعصون فقالت يا رب ما أجهل هؤلاء وما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك فقال الله لو كنتم في مسلاخهم لعصيتموني ، قالوا كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال اختاروا منكم ملكين فاختاروا هاروت وماروت ، ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات بني آدم ، ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعها المعصية فقال الله اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول ، قال أقول إن عذاب الدنيا منقطع ، وإن عذاب الآخرة لا ينقطع ، فاختار عذاب الدنيا فهما اللذان ذكر الله في كتابه { وما أنزل على الملكين } الآية ، وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار كما أخرجه جماعة من أهل الأثر .

وأخرج الحاكم{[110]} وصححه عن علي ابن أبي طالب أن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة والعجم { أناهيد } قال ابن كثير وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا . وعن ابن عباس الزهرة امرأة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهذه هي الكوكبة الحمراء يعني الزهرة ، وقيل وكانت من لخم أو من أهل فارس ملكة في بلدها ، وكانت من أجمل النساء فمسخها الله كوكبا ، وأخرج ابن المنذر وابن حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه ، فذكر قصة طويلة وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها ، وعن ابن مسعود قال : أنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة .

وقد روي في هذا الباب قصص طويلة ، وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدر المنثور ، وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال : وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين .

وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله تعالى أعلم وانتهى .

وقال أبو السعود : هما معذبان ببابل قيل معلقان بشعورهما ، وقيل منكوسان يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة ، وهذا مما لا تعويل عليه ، لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل انتهى ، ومثله في الخازن ونحوه في المظهري .

وهذا القول يقتضي أن هذه القصة غير صحيحة وأنها لم تثبت بنقل معتبر ، وتبع أبو السعود في ذلك البيضاوي التابع في ذلك للفخر الرازي والسعد التفتازاني وغيرهما ممن أطال في ردها . لكن قال الشيخ زكريا الأنصاري : الحق ما أفاده شيخنا حافظ عصره الشهاب ابن حجر أن لها طرقا تفيد العلم بصحتها فقد رواها مرفوعة الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم ، وموقوفة على علي وابن مسعود وابن عباس ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال الخفاجي قال المحدثون وجميع رجاله غير موثوق بهم ، لكن قال خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر أن له طرقا كثيرة جمعتها في جزء مفرد يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخارجها . وقال بعضهم : بلغت طرقه نيفا وعشرين انتهى .

" قلت والبيضاوي لما استعبد هذا المنقول ولم يطلع عليه قال إنه محكي عن اليهود ، ولعله من رموز الأولين ، ذكره الخطيب . "

وكذا أهل الكلام طعنوا في هذه القصة وعدوها من المحلات لمسخ الإنسان كوكبا كما بينوه في كتبهم . وحاول البيضاوي التوفيق بأنها تمثيلات كقصة أبسال وسلامان وحرير مقطان وغير ذلك مما وضعه المتقدمون والمتأخرون إشارة إلى أن القوى لو ركبت في تلك لعصت . وأسماء الله ومناجاته تلحق السفلى بالعلوى ونحوه .

هذا ؛ وقد أطنب الشيخ ابن حجر المكي في جواب الرازي واستبعاده لهذه القصة في كتابه الزواجر بما لا مزيد عليه .

وقال القرطبي بعد سياق بعض تلك ، قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء ؛ فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ؛ وسفراؤه إلى رسله { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ثم ذكر ما معناه أن العقل يجوز وقوع ذلك منهم لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح انتهى .

وأقول هذا مجرد استبعاد وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع تراه ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات ؛ وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك ؛ فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ، ولا وجه لمنع التخصيص ، وقد كان إبليس بتلك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين . {[111]}

{ وما يعلمان من أحد } أي هاروت وماروت أو الرجلان والأول أولى ؛ قال الزجاج تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه ؛ قال وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ؛ ومعناه أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم لا تفعلوا كذا ، وقد قيل أن قوله { يعلمان } من الإعلام لا من التعليم وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي وهو كثير في أشعارهم { حتى يقولا } أي إلا أن ينصحاه أولا أو أن يقولا .

{ إنما نحن فتنة } هو على ظاهره أي ابتلاء واختبار من الله لعباده ومحنة ، وقيل إنه استهزاء منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد يحقق ضلاله والأول أولى ، والمعنى إنما نحن ابتلاء فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ، ومن توقى عن العمل به واتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله بقي على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد حقيته وجواز العمل به قاله أبو السعود .

قال الخفاجي وفيه إشارة إلى أن الاجتناب واجب احتياطا وكما لا يحرم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبهة وإن كان أغلب أحواله التحريم ، كذلك تعلم السحر إن فرض فشوه في صقع وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق ، وهو لا ينافي إطلاق القول بالتحريم فاعرفه ، انتهى .

قلت أخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصححه عن ابن مسعود : " من أتى كاهنا أو ساحرا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " . وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ، ومن عقد عقدة ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " . وأخرج عبد الرزاق عن صفوان ابن سليم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله " .

وفي قولهما { فلا تكفر } أبلغ إنذار وأعظم تحذير أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد ، وبين من تعلمه ليكون ساحرا ، ومن تعلمه ليقدر على دفعه ، وبه قال أحمد .

{ فيتعلمون منهما } يعني من الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } أي سحرا سببا في التفريق بينهما كالتمويه والتخييل والنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده البغضاء والنشوز والخلاف بين الزوجين ابتلاء من الله تعالى وفي إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سببا لذلك دليل على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد ، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره ، وقالت طائفة أخرى أن ذلك خرج مخرج الأغلب وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ، وقيل ليس للسحر تأثيرا في نفسه أصلا لقوله تعالى .

{ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } والحق أنه لا تنافي بين القولين المذكورين ، فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثير في نفسه وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال .

{ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } يعني السحر لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر إلى العمل غالبا ، وفيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض ، وخسران صرف ، وشر بحت ، قال أبو السعود فيه أن الاجتناب عما لا تؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التي يؤمن أن تجر إلى الغواية ، وإن قال من قال :

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه

{ ولقد علموا } يعني اليهود { لمن اشتراه } أي اختار السحر ، والمراد بالشراء هنا الاستبدال أي من استبدل ما يتلو الشياطين { ما له في الآخرة من خلاق } أي من نصيب كما عند أهل اللغة ، كذا قال الزجاج { ولبئس ما شروا به أنفسهم } أي باعوها وقد أثبت لهم العلم في قوله ولقد علموا ، ونفاه عنهم في قوله { لو كانوا يعلمون } واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب والأخفش أن المراد بقوله { ولقد علموا } الشياطين والمراد بقوله { لو كانوا يعلمون } الأنس وقال الزجاج أن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم الزيدان قاموا ، والثاني المراد به علماء اليهود ، وإنما قال لو كانوا يعلمون لأنهم تركوا العمل بعلمهم .


[110]:المستدرك2/265
[111]:قوله: كان إبليس بتلك المنزلة العظيمة وصار أشر البرية وأكفر العالمين دعوى لا دليل عليها.