فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين 106 } .

{ يا أيها الذين آمنوا } استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم أثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم { شهادة بينكم } قال مكي في كتابه المسمى بالكشف : هذه الآيات الثلاث يعني هذه واللتان بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما وتفسيرا ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها . قال ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد .

قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى يعني من كتاب مكي ، قال القرطبي ، ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا ، قال السعد في حاشيته على الكشاف : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما انتهى .

قال السخاوي : لم أر أحدا من العلماء تخلص كلامه من أولها إلى آخرها قلت وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراآتها ومعرفة تألفيها ، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبها إلى آخر ما في عبارة السمين ، فارجع إليه عن شئت .

وأضاف الشهادة إلى البين توسعا لأنها جارية بينهم ، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت ( ما ) وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى : { بل مكر الليل والنهار } ومنه قوله تعالى : { هذا فراق بيني وبينك } واختلف في هذه الشهادة فقيل هي هنا بمعنى الوصية ، وقيل بمعنى الحضور للوصية .

وقال ابن جرير الطبري : هي هنا بمعنى اليمن أي يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين ، واختار هذا القول القفال ، وضعف ذلك ابن عطية واختار أنها هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود أي الأخبار بحق للغير على الغير .

{ إذا حضر أحدكم الموت } المراد بحضور الموت حضور علاماته لأن من مات لا يمكنه الإشهاد ، وتقديم المفعول للاهتمام ولإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها فإنه أدخل في تهوين أمر الموت .

{ حين الوصية } بدل منه لا ظرف للموت كما توهم ولا لحضوره كما قيل ، فإن في الإبدال تنبيها على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها .

{ اثنان ذوا عدل منكم } أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحري ما هو أصلح له { أو آخران } كائنان { من غيركم } أي من الأجانب وقيل إن الضمير في { منكم } للمسلمين والمراد بقوله { غيركم } الكفار وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس وغيرهما : فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني ، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي .

فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا ، وإن ما شهدا به حق فيحكم حينئذ بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها .

هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره ، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيي ابن يعمر وسعيد بن جرير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل ، وذهب إلى الأول أعني تفسير ضمير منكم بالقرابة أو العشيرة وتفسير غيركم بالأجانب ، الزهري والحسن وعكرمة ، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلى أن الآية منسوخة ، واحتجوا بقوله : { ممن ترضون من الشهداء } وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول .

وخالفهم الجمهور فقالوا : الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ ، وأما قوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } وقوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فهما علمان في الأشخاص والأزمان والأحوال ، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين ، ولا تعارض بين خاص وعام .

{ إن أنتم ضربتم في الأرض } الضرب في الأرض هو السفر أي إن سافرتم فيها ، قال السمين قوله : إن أنتم قيد في قوله : { أو آخران } وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب هكذا إن هو ضرب الأرض فأصابته .

{ فأصابتكم مصيبة الموت } أي فنزل بكم أسباب الموت وقاربكم الأجل وأردتم الوصية حينئذ ولم تجدوا شهودا عليها من المسلمين فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليها ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أنكم { تحبسونهما } وتوقفونهما ، ويجوز أن يكون استئنافا كأنهم قالوا فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة فقال تحبسونهما .

{ من بعد صلاة } إن ارتبتم في شهادتهما وهي صلاة العصر ، قاله الأكثر ، لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح ، وعدم تعيينها في الآية لتعينها عندهم للتحليف بعدها قيل وجمع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب ، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة ، وقيل لأنه وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ، وقيل صلاة أهل دينهما وقيل صلاة الظهر ، قاله الحسن وقيل أي صلاة كانت ، قاله القرطبي .

والمراد بالحبس توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما ، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام ، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما .

{ فيقسمان } أي الشاهدان على الوصية أو الوصيان { بالله } وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما وفيه نظر ، لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها .

قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم ، فيحلف بعد الصلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة ، وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها .

{ إن ارتبتم } أي شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما فحلفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع .

{ لا تشتري به ثمنا } الضمير راجع إلى الله تعالى ، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى وعهده بهذا العرض النذر من الدنيا فنحلف به كاذبين لأجل مال ادعيتموه علينا وعوض نأخذ أو حق نجحده ، وقيل يعود إلى القسم أي لا نستبدل لصحة القسم بالله عرضا من أعراض الدنيا وقيل يعود إلى تحريف الشهادة قاله أبو علي .

وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا ، وهذا أقوى من حيث المعنى ، قال الكوفيون ، المعنى ذا ثمن وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمنا ، وعند الأكثر أنها تمسى ثمنا كما تسمى مبيعا .

{ ولو كان ذا قربى } أي ولو كان المشهود له أو المقسم له ذا قرابة منا ، وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم ، والمعنى لا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة ، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبلها عليه أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا .

{ ولا نكتم شهادة الله } معطوف على { لا نشتري } داخل معه في حكم القسم ، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها ، قال ابن زيد : لا نأخذ به رشوة { أنا إذا } إن كتمنا الشهادة { لمن الآثمين } .

أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدا فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدموا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي . وقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية ، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي قال الترمذي : قيل إنه صالح الحديث ، وقد روى ذلك أبو داود من طريقه .

وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية ، وذكرها المفسرون مختصرة ومطولة في تفاسيرهم ، وقال القرطبي : إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية .