فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون 105 } .

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم } أي الزموا { أنفسكم } واحفظوها من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي وقوموا بصلاحها ، يقال عليك زيدا أي الزم زيدا فالنصب على الإغراء ، واختلف النحاة في الضمير المتصل بها وبأخواتها نحو إليك ولديك ومكانك ، والصحيح أنه في موضع جر ، كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء ، وهذا مذهب سيبويه .

وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بعد لنصب ما بعده ، وذهب الفراء إلى أنه مرفوع ، وقد حققت هذه المسائل بدلائلها مبسوطة في شرح التسهيل .

{ لا يضركم } ضلال { من ضل } من الناس أي أهل الكتاب وغيرهم { إذا اهتديتم } للحق أنتم في أنفسكم ، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد ، وقد قال سبحانه ، { إذا اهتديتم } .

وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما ، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر والنهي أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره وضررا يسوغ له معه الترك .

أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية قال أية آية ؟ قلت قوله : { يا أيها الذين آمنوا } الخ قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم ، وفي لفظ قيل يا رسول الله منا أو منهم ، قال بل أجر خمسين منكم ) {[670]} .

وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال له : ( ما حبسك ؟ قال يا رسول الله قرأت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } الآية ، قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أين ذهبتم ، إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم ) .

وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني وأحمد وغيرهما عن قيس ابن أبي حازم قال : قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير مواضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ، وفي لفظ لابن جرير عنه والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب ) {[671]} .

وعن ابن مسعود وسأله رجل عن قوله عليكم أنفسكم قال : إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال فلا يقبل منكم ، فحينئذ عليكم أنفسكم ، وعن ابن عمر أنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم ، وعن أبي بن كعب إنما تأويلها في آخر الزمان .

وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( لم يجئ تأويلها لا يجئ تأويلها ، حتى يهبط عيسى بن مريم عليه السلام ) .

قال الطبري : وأولى هذه الأقوال وأوضح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روى عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والأخذ على يد الظالم والله ما نزل آية أشد منها .

وعن ابن المبارك هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات .

وقال مجاهد وابن جبير : هي في اليهود والنصارى خذوا منهم الجزية واتركوهم .

وقال أبو السعود : ولا يتوهم أن في هذه الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما ، كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسبما تفي به الطاقة انتهى .

والأقوال والروايات في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية ، ففيه ما يرشد إلى ما قدمنا من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

{ إلى الله مرجعكم جميعا } أي إليه في الآخرة رجوع الطائع والعاصي والضال والمهتدي ، ففي الآية اكتفاء { فينبئكم بما كنتم تعملون } أي فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها ، وفي هذا وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره .


[670]:الترمذي كتاب التفسير سورة 5 -18 –ابن ماجه كتاب الفتن الباب 21.
[671]:أحمد بن حنبل 1/5 – 7.