{ ما جعل الله من بحيرة } هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه وجعل ههنا بمعنى سمي كما قال تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } ويتعدى لمفعولين أحدهما محذوف والتقدير ما سمى الله حيوانا بحيرة قاله أبو البقاء ، وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء : إنها تكون بمعنى شرع ووضع أي ما شرع الله ولا أمر بها ، وقال ابن عطية ، وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى خلق لأن الله خلق هذه الأشياء كلها ، ولا بمعنى صير لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان فمعناه ما بين الله ولا شرع .
ومنع الشيخ هذه التقولات كلها بأن جعل لم يعد اللغويون من معانيها شرع وخرج الآية على التصيير ويكون المفعول الثاني محذوفا أي ما صير الله بحيرة مشروعة ، وقال أبو السعود : معنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدي إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها ، ومن مزيدة لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجيء تارة متعديا إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي كما يجيء مرة متعديا إلى مفعولين كما في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة انتهى .
وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة مأخوذة من البحر وهو شق الأذن ، قال ابن سيد الناس : البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك ، قاله سعيد بن المسيب .
قال الشافعي : كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت ، وبه قال أبو عبيدة زاد : فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء ، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها ، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء ، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها .
وقيل إذا نتجت خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها وقيل غير ذلك ، ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة .
{ ولا } أي وما جعل من { سائبة } أي مسببة مخلاة وهي الناقة تسيب أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله فلا يحبس عن رعي ولا ماس ولا يركبه أحد ، قاله أبو عبيدة ، وقيل هي التي تسيب الله فلا قيد عليها ولا راعي لها ، وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر فعند ذلك لا يركب ظهرها ، ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا الضيف قاله الفراء ، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد .
{ ولا } أي وما جعل من { وصيلة } قيل هي ناقة ولدت أنثى بعد أنثى ، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركت في الغنم ، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء .
وقيل : هي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثنى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون قد وصلت أنثى بأنثى .
{ ولا } جعل من { حام } هو الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وينتفع به ، وكانوا إذا ركب ولد ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب ، وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء ، وقيل هو الفحل ينتج من بين أولاده عشر إناث رواه ابن عطية وقيل هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج .
وقال الشافعي : إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين ، وقال ابن دريد : هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره فيفعل به ما تقدم .
وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء وإنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت أحدهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي .
وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يعني عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه وهو أول من سيب السوائب ) أخرجه الشيخان{[669]} .
{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذبا لا لشرع شرعه الله لهم ، ولا لعقل دلهم الله عليه ، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق ، وهذا شأن علمائهم ورؤسائهم وكبرائهم .
{ وأكثرهم } أي أراذلهم وعوامهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد به سياق النظم { لا يعقلون } إن هذا كذب باطل وافتراء من الرؤساء على الله سبحانه حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فاستمروا في أشد التقليد ، وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.