فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ ما جعل الله من بحيرة } هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه وجعل ههنا بمعنى سمي كما قال تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } ويتعدى لمفعولين أحدهما محذوف والتقدير ما سمى الله حيوانا بحيرة قاله أبو البقاء ، وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء : إنها تكون بمعنى شرع ووضع أي ما شرع الله ولا أمر بها ، وقال ابن عطية ، وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى خلق لأن الله خلق هذه الأشياء كلها ، ولا بمعنى صير لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان فمعناه ما بين الله ولا شرع .

ومنع الشيخ هذه التقولات كلها بأن جعل لم يعد اللغويون من معانيها شرع وخرج الآية على التصيير ويكون المفعول الثاني محذوفا أي ما صير الله بحيرة مشروعة ، وقال أبو السعود : معنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدي إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها ، ومن مزيدة لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجيء تارة متعديا إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي كما يجيء مرة متعديا إلى مفعولين كما في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة انتهى .

وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة مأخوذة من البحر وهو شق الأذن ، قال ابن سيد الناس : البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك ، قاله سعيد بن المسيب .

قال الشافعي : كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت ، وبه قال أبو عبيدة زاد : فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء ، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها ، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكرا بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء ، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها .

وقيل إذا نتجت خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها وقيل غير ذلك ، ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة .

{ ولا } أي وما جعل من { سائبة } أي مسببة مخلاة وهي الناقة تسيب أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله فلا يحبس عن رعي ولا ماس ولا يركبه أحد ، قاله أبو عبيدة ، وقيل هي التي تسيب الله فلا قيد عليها ولا راعي لها ، وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر فعند ذلك لا يركب ظهرها ، ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا الضيف قاله الفراء ، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد .

{ ولا } أي وما جعل من { وصيلة } قيل هي ناقة ولدت أنثى بعد أنثى ، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركت في الغنم ، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء .

وقيل : هي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثنى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون قد وصلت أنثى بأنثى .

{ ولا } جعل من { حام } هو الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وينتفع به ، وكانوا إذا ركب ولد ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب ، وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء ، وقيل هو الفحل ينتج من بين أولاده عشر إناث رواه ابن عطية وقيل هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج .

وقال الشافعي : إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين ، وقال ابن دريد : هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره فيفعل به ما تقدم .

وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء وإنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء ، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت أحدهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي .

وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يعني عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه وهو أول من سيب السوائب ) أخرجه الشيخان{[669]} .

{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذبا لا لشرع شرعه الله لهم ، ولا لعقل دلهم الله عليه ، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق ، وهذا شأن علمائهم ورؤسائهم وكبرائهم .

{ وأكثرهم } أي أراذلهم وعوامهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد به سياق النظم { لا يعقلون } إن هذا كذب باطل وافتراء من الرؤساء على الله سبحانه حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فاستمروا في أشد التقليد ، وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم .


[669]:مسلم 901 – البخاري 584.