الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ} (78)

أخرج الحاكم عن وهب قال : داود بن إيشا بن عويد بن عابر من ولد يهوذا بن يعقوب ، وكان قصيراً أزرق قليل الشعر طاهر القلب .

وأخرج ابن جرير عن مرة رضي الله عنه في قوله : { إذ يحكمان في الحرث } قال : كان الحرث نبتاً ، فنفشت فيه ليلاً فاختصموا فيه إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث ، فمروا على سليمان فذكروا ذلك له فقال : لا تدفع الغنم . فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا عاد كما كان ردوا عليهم فنزلت { ففهمناها سليمان } .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه والحاكم و البيهقي في سننه ، عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته الغنم ، فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : أغير هذا يا نبي الله ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا عاد الكرم كما كان دفعت الكرم لصاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها . فذلك قوله : { ففهمناها سليمان } .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مسروق قال : الحرث الذي { نفشت فيه غنم القوم } إنما كان كرماً نفشت فيه غنم القوم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل كرمه وأصل أرضه ، بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها وصوفها ونفعها ، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمرونه ويصلحونه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ، ثم يعطى أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم كرمهم .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وداود وسليمان } إلى قوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } يقول : كنا لما حكما شاهدين ، وذلك أن رجلين دخلا على داود : أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي فلم تبق من حرثي شيئاً . فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك . فقضى بذلك داود ، ومر صاحب الغنم بسليمان فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبي الله ، إن القضاء سوى الذي قضيت . فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفى على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن ينتفع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل كل عام . فقال داود : قد أصبت ، القضاء كما قضيت . ففهمها الله سليمان .

وأخرج ابن جرير وعبد الرزاق عن مجاهد في الآية قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجزة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعاؤها ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم .

وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال : النفش بالليل والهمل بالنهار . ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلاً فرفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها ورسلها وعوارضها وجزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئته يوم أكل ، دفعت الغنم إلى أربابها وقبض صاحب الزرع زرعه . قال الله : { ففهمناها سليمان } .

وأخرج ابن جرير عن قتادة والزهري في الآية قال : نفشت غنم في حرث قوم فقضى داود أن يأخذوا الغنم ففهمها الله سليمان ، فلما أخبر بقضاء داود قال : لا ، ولكن خذوا الغنم ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل ، وكانت تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان ، وقد تبتلت المرأة لا تريد الرجال ، فقالت إحدى الجاريتين للأخرى : قد طال علينا هذا البلاء ، أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشر ما كنا لها ، فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال . فأتيا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة ، فكشفتا عن ثوبها ونضحتا في دبرها ماء البيض ، وصرختا : إنها قد بغت . وكان من زنى فيهم حدّه الرجم ، فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها ، فقال سليمان : ائتوا بنار ، فإنه إن كان ماء الرجال تفرق ؛ وإن كان ماء البيض اجتمع . فأتي بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم ، فعطف داود على سليمان فأحبه .

ثم كان بعد ذلك أصحاب الحرث وأصحاب الشياه ، فقضى داود عليه السلام بالغنم لأصحاب الحرث فخرجوا وأخرجت الرعاة معهم الكلاب فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه فقال : لو وليت أمرهم لقضيت بغير هذا القضاء . فقيل لداود عليه السلام : إن سليمان يقول كذا وكذا . فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ فقال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث هذا العام فيكون لهم أولادها وسلالها وألبانها ومنافعها ، ويذر أصحاب الحرث الحرث هذا العام ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ هؤلاء الحرث ودفعوا إلى هؤلاء الغنم .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { نفشت } قال : رعت .

وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس ، أن نافع بن الأزرق سأله عن قوم { نفشت } قال : النفش ، الرعي بالليل . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت قول لبيد :

بدلن بعد النفش الوجيفا *** وبعد طول الحزن الصريفا

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي شيبة وأحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه ، عن حرام بن محيصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «على أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وإن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها » .

وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أن ناقة البراء بن عازب رضي الله عنه دخلت حائطاً لقوم فأفسدت عليهم ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : على أهل الحائط حفظ حائطهم بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل ، ثم تلا هذه الآية { وداود وسليمان } الآية . ثم قال : نفشت ليلاً » .