مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ} (78)

القصة الخامسة : قصة داود وسليمان عليهما السلام

قوله تعالى :{ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ، وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ، ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين }

اعلم أن قوله تعالى : وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون ، كله نسق على ما تقدم من قوله : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } ومن قوله : { ولوطا آتيناه حكما وعلما } واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان فذكر أولا النعمة المشتركة بينهما ، ثم ذكر ما يختص به كل واحد منهما من النعم . أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهي قصة الحكومة ، ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم والفهم في قوله : { وكلا آتينا حكما وعلما } ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها ، وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره ههنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن . وإذا كان العلم مقدما على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلا ونهارا .

المسألة الثانية : أكثر المفسرين على أن الحرث هو الزرع ، وقال بعضهم : هو الكرم والأول أشبه بالعرف .

المسألة الثالثة : احتج من قال : أقل الجمع اثنان بقوله تعالى : { وكنا لحكمهم شاهدين } مع أن المراد داود وسليمان . جوابه : أن الحكم كما يضاف إلى الحاكم فقد يضاف إلى المحكوم له ، فإذا أضيف الحكم إلى المتحاكمين كان المجموع أكثر من الإثنين ، وقرئ وكنا لحكمهما شاهدين .

المسألة الرابعة : في كيفية القصة وجهان . الأول : قال أكثر المفسرين : دخل رجلان على داود عليه السلام ، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث : إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئا ، فقال داود عليه السلام : اذهب فإن الغنم لك . فخرجا فمرا على سليمان ، فقال : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه : فقال : لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا . فأخبر بذلك داود عليه السلام فدعاه وقال : كيف كنت تقضي بينهما ، فقال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه . الثاني : قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله : أن راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم ، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت ، فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم : كيف قضى بينكما ؟ فأخبراه به ، فقال غير هذا أرفق بالفريقين ، فأخبر داود عليه السلام بذلك فدعا سليمان وقال له : بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، فقال : تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان ، ثم ترد الغنم إلى صاحبها ، فقال داود عليه السلام : إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك . قال ابن عباس رضي الله عنهما : حكم سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وههنا أمور ولا بد من البحث عنها .

السؤال الأول : هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا ؟ فإن أبا بكر الأصم قال : إنهما لم يختلفا ألبتة ، وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان سليمان عليه السلام . الجواب : الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على ما رويناه ، وأيضا فقد قال الله تعالى : { وكنا لحكمهم شاهدين }