تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَدَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ إِذۡ يَحۡكُمَانِ فِي ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِيهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَٰهِدِينَ} (78)

{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( 78 ) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ( 79 ) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ( 80 ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ( 81 ) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ( 82 ) } .

78

التفسير :

78 - وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ .

الحرث : الزرع .

النفش : رعي الماشية بالليل بلا راع .

شاهدين : حاضرين .

تشير كتب التفسير والحديث إلى مضمون هذه الآية .

ذلك أن رجلين أحدهما صاحب زرع والثاني صاحب غنم ، انطلقت أغنام صاحب الغنم ليلا فأكلت الزرع عن آخره ، فاشتكى الفلاح إلى داود عليه السلام ؛ وسأل داود عن قيمة الزرع ، وقيمة الغنم ؛ فلما علم أن قيمتهما متقاربة ؛ قضى بالغنم لصاحب الزرع ؛ عوضا عن الخسارة التي أصابته .

وسار صاحب الزرع وصاحب الغنم ؛ فمرا على نبي الله سليمان ؛ فسألهما : بم حكم الملك ؟ فأخبراه به .

فقال سليمان : عدل الملك ، وغير ذلك كان أحكم : أن يعطى للفلاح الغنم فينتفع بألبانها وأصوافها ونتاجها ، ويعطي لصاحب الغنم الأرض فيحرثها ويزرعها ويسقيها ؛ حتى يعود الزرع كما كان ؛ فيستلم صاحب الأرض أرضه ، وصاحب الغنم غنمه ، فقال داود لما بلغه هذا القول : القضاء كما قضى سليمان .

وقد ناقش المفسرون : هل كان قضاء داود بوحي أم باجتهاد ؟ والراجح أن قضاء كل منهما كان باجتهاد لا بوحي ؛ فداود نظر إلى العدل المطلق ، حيث إن صاحب الزرع ؛ قد خسر زراعة تعادل قيمة الغنم ، أما سليمان فنظر إلى العدل الإيجابي ؛ المشتمل على البناء والتكوين والنظرة العامة .

فصاحب الغنم : يعمل في إصلاح الأرض وزراعتها ؛ حتى يعود الزرع كما كان ، وصاحب الأرض : يستفيد بنتاج الأغنام وألبانها ؛ ثم يستلم الأرض كما كانت ، ويستلم صاحب الأغنام أغنامه كما كانت ؛ وكل منهما حكم باجتهاده بيد أن الله فهم سليمان هذه الطريقة المثلى ؛ وفيها الرأفة والبناء ؛ والإبقاء على صاحب الغنم ؛ بأن يجتهد في إصلاح الأرض وزراعتها ؛ ثم يسترد غنمه .

ولو كان حكم سليمان بوحي لما قال القرآن ففهمناها سليمان ؛ لأن القرآن أفاد : أنهما حكما في الموضوع ؛ واحدا بعد الآخر ، وأن الله فهم سليمان الأولى والأرفق .

وكنا لحكمهم شاهدين .

أي : كنا ناظرين مطلعين على حكمهم واجتهادهم ؛ لذلك ورد في صحيح البخاري : ( المجتهد إذا أصاب له أجران : أجر الاجتهاد وأجر الصواب ، وإذا أخطأ فله أجر واحد هو أجر الاجتهاد )23 .

ومعنى الآية : واذكر أيها الرسول الكريم : قصة داود وسليمان ؛ وقت أن كانا يحكمان في الزرع ، الذي نفشت فيه غنم القوم . أي : انطلقت وتفرقت فيه وانتشرت ليلا ؛ دون أن يكون معها راع ؛ فرعته وأفسدته ؛ وكنا لما حكم به داود وسليمان عالمين وحاضرين ؛ بحيث لا يغيب عنا شيء مما قالاه .

وقد ورد في صحيح البخاري ومسلم وأحمد والنسائي قصة أخرى تدل على مهارة سليمان في القضاء ؛ والحكمة في استخلاص الحقيقة من بين المتخاصمين .

ومعنى ما ورد في الحديث الصحيح :

أن امرأتين إحداهما صغرى والثانية كبرى ؛ انطلقتا في طريق إلى السوق ، ومع كل منهما طفل رضيع ، وفي الطريق استراحتا ووضعتا طفليهما على الأرض ، فجاء ذئب فالتقم ابن إحداهما .

فاشتكتا إلى نبي الله داود ؛ كل منهما تقول : إن الطفل الموجود ابنها ؛ وأن الذئب التقم ابن الأخرى ؛ فقضى نبي الله داود بالولد للكبرى ؛ حيث كان الولد معها تحمله وتحتضنه وتحافظ عليه ، ولم تقدم الصغرى دليلا لينقله إليها .

ثم عرض الأمر بعد ذلك على سليمان فقال : عدل الملك وغير ذلك كان أحكم ؛ وبلغ الأمر إلى نبي الله داود ؛ فأحضر سليمان وسأله عن حكمه في الموضوع فقال : أرى أن نقسم الصبي قسمين متناصفين ، ونعطي كل امرأة نصفا ؛ فليست إحداهما أحق به من الأخرى ؛ فلما وضعت السكين الحادة على رأس الصبي ؛ صرخت الصغرى وقالت : هو ولدها فلتأخذه كله ، فقضى به للصغرى24 .

وتوجد في ذكاء القضاة ، وأساليبهم في استخلاص الحقوق ، والاهتداء إلى الحقيقة ؛ وقد خص الله سليمان بهذا الفهم ، وهداه إلى الحكمة في القضاء ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .