فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ} (37)

{ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } هذه الجملة صفة لرجال : أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر ؛ وخصّ التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الذكر . وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب ، والبيع ما باعه الرجل على بدنه ، وخصّ قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها ، وبمثل قول الفراء . قال الواقدي ، فقال : التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون ، ومعنى { عَن ذِكْرِ الله } هو ما تقدّم في أوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } ، وقيل المراد الآذان ، وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى أي : يوحدونه ، ويمجدونه . قيل : المراد عن الصلاة ، ويردّه ذكر الصلاة بعد الذكر هنا . والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وحذفت التاء ؛ لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله :

ثلاثة تحذف تاآتها *** مضافة عند جمع النحاة

وهي إذا شئت أبو عذرها *** وليت شعري وإقام الصلاة

وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر :

إن الخليط أجدوا البين وانجردوا . . . وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي عدة الأمر ، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع . قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل إقواماً ، ولكن قلبت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين ، فبقي أقمت الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة ، وهذا إجماع من النحويين . انتهى .

وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة : أن يحمل إقامة الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ، ولا ملجىء إلى ذلك ، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا . والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة ، وقيل : المراد بالزكاة طاعة الله ، والإخلاص ، إذ ليس لكلّ مؤمن مال .

{ يخافون يَوْماً } أي : يوم القيامة ، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له ، ثم وصف هذا اليوم بقوله { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } أي تضطرب وتتحوّل ، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج ، والمراد بتقلب الأبصار هو : أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة . وقيل : المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة ، والخوف من الهلاك ، وأما تقلب الأبصار فهو : نظرها من أيّ ناحية يؤخذون ، وإلى أيّ ناحية يصيرون . وقيل : المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ، ومثله قوله : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً . وقيل : المراد : التقلب على جمر جهنم ، وقيل غير ذلك .

/خ38