فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

ثم هدّد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها : فقال : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } .

واختلف في معنى وقوع القول عليهم ، فقال قتادة : وجب الغضب عليهم .

وقال مجاهد : حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقيل حق العذاب عليهم ، وقيل وجب السخط ، والمعاني متقاربة . وقيل المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها ، وقيل وقع القول بموت العلماء ، وذهاب العلم . وقيل إذا لم يأمروا بالمعروف ، وينهوا عن المنكر . والحاصل أن المراد بوقع وجب ، والمراد بالقول مضمونه ، أو أطلق المصدر على المفعول : أي القول ، وجواب الشرط { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ } .

واختلف في هذه الدابة على أقوال ، فقيل إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة . وقيل هي دابة ذات شعر ، وقوائم طوال يقال لها الجساسة . وقيل هي دابة على خلقة بني آدم ، وهي في السحاب ، وقوائمها في الأرض . وقيل رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن إيَّل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرّ ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً . وقيل هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة ، والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان ، وقيل : هي دابة ما لها ذنب ولها لحية ، وقيل هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار . وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره ، وقد رجح القول الأوّل القرطبي في تفسيره .

واختلف من أيّ موضع تخرج ؟ فقيل من جبل الصفا بمكة ، وقيل تخرج من جبل أبي قبيس . وقيل لها ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس ، وتكثر الدماء ثم تكمن ، وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها . وقيل : تخرج من بين الركن والمقام . وقيل : تخرج في تهامة . وقيل : من مسجد الكوفة من حيث فار التنور . وقيل من أرض الطائف . وقيل : من صخرة من شعب أجياد . وقيل : من صدع في الكعبة . واختلف في معنى قوله { تكلمهم } فقيل : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقيل تكلمهم بما يسوؤهم . وقيل : تكلمهم بقوله تعالى : { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } أي بخروجها ؛ لأن خروجها من الآيات . قرأ الجمهور { تكلمهم } من التكليم ، ويدلّ عليه قراءة أبيّ : " تنبئهم " ، وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن : " تكلمهم " بفتح الفوقية ، وسكون الكاف من الكلم ، وهو الجرح . قال عكرمة : أي تسمهم وسماً ، وقيل : تجرحهم . وقيل : إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف ، وسكون اللام ، وهو الجرح ، والتشديد للتكثير ، قاله أبو حاتم . قرأ الجمهور : { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } بكسر إن على الاستئناف ، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح { أن } . قال الأخفش : المعنى على قراءة الفتح : " بأن الناس " .

وكذا قرأ ابن مسعود : " بأن الناس " بالباء . وقال أبو عبيد : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها : أي تخبرهم أن الناس ، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله : { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك . وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدّمنا ، ولا تكون من كلام الدابة . وقد صرّح بذلك جماعة من المفسرين ، وجزم به الكسائي والفراء . وقال الأخفش : إن كسر " إن " هو على تقدير القول أي تقول لهم : " إِنَّ الناس " إلخ ، فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية ، والمراد بالناس في الآية : هم الناس على العموم ، فيدخل في ذلك كل مكلف ، وقيل : المراد الكفار خاصة ، وقيل : كفار مكة ، والأوّل أولى .

/خ82