سورة الزمر مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها 75 آية .
نزلت بعد سورة سبأ ، وقد سميت سورة الزمر بذلك الاسم لقوله تعالى في آخرها : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . . . } ( الزمر : 71 ) ، وقوله تعالى : { وسيق الذي اتقوا إلى الجنة زمرا . . . } ( الزمر 73 ) .
وللسورة اسمان : سورة الزمر ، وسورة الغرف ، لقوله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف . . . } ( الزمر : 20 ) .
سورة الزمر تهز القلب هزّا ، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله ، وتستعرض أمامه أدلة القدرة الإلهية ، والجزاء العادل في الدنيا والآخرة ، وتفتح باب الرجاء الآمل في رحمة الله ورضوانه ، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى : { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } . ( الزمر : 53 ) .
ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد على قضية التوحيد الخالص ، ففي مطلع السورة : { ألا لله الدين الخالص . . . } ( الزمر : 3 ) .
وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة ، تعرض عليها أدلة القدرة ومشاهد الكون ، وخلق الليل والنهار ، وإنزال المطر وإنبات النبات ، وبدء الخليقة ، ومراحل خلق الجنين ، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله في الضراء ، والإعراض عنه في السراء ، من أن يموت قائم على رءوس العباد .
مشاهد الآخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها ، حيث نجد الملائكة حافين من حول العرش ، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي ، وسلام ونعيم في الخلود ، ونرى الكفار يساقون إلى جهنم زمرا في مهانة وإذلال .
" وظل الآخرة في السورة يتناسق مع جوها ، وأهداف اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها ، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش ، ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية ، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، وفي صورة الذين يخشون ربهم ، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، كما نجده في التوجيه إلى التقوى ، والخوف من العذاب والتخفيف منه ، ثم نجده في مشاهد القيامة ، وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع " {[1]} .
في الآيات الأولى من السورة حث على إخلاص العبادة لله ، ثم نهى عن اتخاذ الأنداد والأولياء ، ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله في خلق الناس من نفس واحدة ، وتزويجها من جنسها ، وخلق الأنعام أزواجا كذلك ، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث ، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أول مرة ، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء ، وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات من ( 1-7 )
في الفقرة الثانية نجد أن الآيات من ( 8-20 ) قد لمست القلوب لمسة أخرى ، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء ، وتريهم تقلبهم وضعفهم وقلة ثباتهم على نهج إلا حين يتصلون بربهم ويتطلعون إليه ، ويقنتون له ، فيعرفون الطريق ، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان .
ثم وجهت الآيات النبي صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة ، وإعلان خوفه من معصية الله ، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه وتركهم هم إلى منهجهم وطريقهم ، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب .
في الآيات من ( 21-35 ) لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة ، وكذلك شأن الدنيا ، ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء كذلك لتحيا به القلوب ، وتنشرح له الصدور ، مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله ، والقاسية قلوبهم من ذكر الله .
ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا ، ومن يعبد آلهة متعددة ، وهما لا يستويان مثلا ، ولا يتفقان حالا ، كما لا يستوي العبد الذي يملكه سادة متنازعون ، والعبد الذي يعمل لسيد واحد لا يتنازعه أحد فيه .
ثم تضيع حقيقة واقعة ، وهي تعرض الناس جميعا للموت والفناء ، الرسول والمرسل إليهم ، وسيتنوع الجزاء يوم القيامة ، فيُجازي الكافرين في جهنم ، ويُجازي الصادقون المصدقون جزاء المحسنين .
في الآيات من ( 36-61 ) نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجة وإقناع الإنسان ، وأخذ السبيل على البشرية حتى لا تجد بدا من الإذعان والانقياد ، وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة ، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن ، وموقفه إزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة ، ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ، ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى يوم القيامة ، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما .
يتلوا هذا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم ، إنما الله هو المسيطر عليهم ، الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالتهم ، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا ، وإليه ملك السماوات والأرض وإليه المرجع والمصير .
ثم تتعرض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد ، وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك ، وتعقب على هذا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله ، وتُصوِّرهم يوم القيامة يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه ، وقد تكشفت لهم من الله ما يذهل ويخيف !
وتعرض الآيات موقف الإنسان من حال الهلع والجزع ، ثم في حال النعمة والرخاء ، فهو إذا أصابه الضر دعا الله وحده ، فإذا وهبه الله النعم والرخاء ادعى دعاوى عريضة ، وقال : إنما أوتيته على علم عندي ، هذه الكلمة التي قالها من سبق من المتبطرين والمتكبرين فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وهو قادر على أن يبطش بكل جبار عنيد ، وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره ، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر .
ثم فتح الله أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة ، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة ، وإتباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة ، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها ، وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين ، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين .
1- الله مستحق للعبادة دون سواه .
تعرض الآيات الأخيرة في السورة من ( 62-75 ) ألوان قدرة الله وجلاله وتفرده بالملك والتصرف في كل شيء ، وإذا تبينت لنا آثار هذه القدرة ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه ، مستغربة مستنكرة ، فكيف يعبد معه سبحانه غيره ، وله وحده مقاليد السماوات والأرض ؟ { وما قدروا الله حق قدره } ، وهم يشركون به ، وهو وحده المعبود القادر القاهر . { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } . فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته . { والسماوات مطويات بيمينه . . . } ( الزمر : 67 ) .
وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرة الله ، وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة ، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش ، يسحبون بحمد ربهم . { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } . ( الزمر : 75 ) .
سورة مكية ، نزلت في الفقرة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، أي بعد الإسراء وقبل الهجرة ، وقد نزلت تهزّ القلب هزّا ، وتقدم أدلة التوحيد ، وتأخذ بيد الإنسان إلى التوبة والإنابة ، وتفتح أبواب التوبة على مصاريعها ، وتحذّر من الإصرار على الذنوب إلى أن يأتي الموت ، ويتمنى الإنسان العودة إلى الدنيا ، ليستدرك ما فاته فلا يستجاب له ، ثم تعرض في نهاية السورة مشاهد القيامة ، وتقدم المتقين إلى الجنة ، وحمدهم لله رب العالمين .
{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( 1 )إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ( 2 ) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ( 3 ) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ( 4 ) }
الكتاب : القرآن ، { تنزيل الكتاب } : مبتدأ ، { من الله } : خبر .
العزيز الحكيم : العزيز في ملكه ، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه .
1- { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } .
بهذه البداية البليغة بدأ الله تعالى سورة الزُّمر ، والزُّمَر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر ، فما أعظم الوحي والتنزيل الذي نزل به جبريل على النبي الأمين ، من الله العزيز الغالب الحكيم ، في أفعاله وتصرفاته ، ومن ذلك اختياره محمدا صلى الله عليه وسلم لتبليغ رسالته للناس أجمعين .
وتسمى الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى { لهم غرف منها فوقها غرف } أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة وحشى قاتل حمزة { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى ثلاث آيات وزاد بعضهم { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } الآية ذكره السخاوي في جمال القراءة وحكاه أبو حيان عن مقاتل وزاد بعض { الله نزل أحسن الحديث } حكاه ابن الجوزي والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء { الله نزل أحسن الحديث } وقوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا } الخ وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه { قل يا عبادي الذين أسرفوا } إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره ووجه اتصال أولها بآخر صاد أنه قال سبحانه هناك : { إن هو إلا ذكر للعالمين } وقال جل شأنه هنا { تنزيل الكتاب من الله } وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر صلى الله عليه وسلم قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه القصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه : { وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل
{ تَنزِيلُ الكتاب } قال الفراء . والزجاج : هو مبتدأ وقوله تعالى :
{ مِنَ الله العزيز الحكيم } خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل ، و { مِنَ الله } متعلق بتنزيل والوجه الأول لوجه كما في «الكشف » ، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكراً للعالمين أو لقوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها ، و { تَنزِيلَ } بمعنى منزل أو قصد به المبالغة ، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائداً على الذكر في { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } [ ص : 87 ] وجعل الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن عليه القرآن وفي { تَنزِيلَ } الاحتمالان ، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون { مِنَ الله } خبراً ثانياً وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضاً أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالاً من { الكتاب } وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالاً من الضمير المستتر في { تَنزِيلَ } على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالاً من { تَنزِيلَ } نفسه والعامل فيه معنى الإشارة . وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق : وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلاً لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفاً ، وقرأ ابن أبي عبلة . وزيد بن علي . وعيسى { تَنزِيلَ } بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم . والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جمع ما فيه على أساس الحكم الباهرة
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } : يخبر تعالى عن عظمة القرآن ، وجلالة من تكلم به ونزل منه ، وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم ، أي : الذي وصفه الألوهية للخلق ، وذلك لعظمته وكماله ، والعزة التي قهر بها كل مخلوق ، وذل له كل شيء ، والحكمة في خلقه وأمره .
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه ، والكلام وصف للمتكلم ، والوصف يتبع الموصوف ، فكما أن اللّه تعالى هو الكامل من كل وجه ، الذي لا مثيل له ، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له ، فهذا وحده كاف في وصف القرآن ، دال على مرتبته .
ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب ، وبما نزل به ، وهو الحق ، فنزل بالحق الذي لا مرية فيه ، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور ، ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة ، وأحكامه العادلة ، فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق ، من جميع المطالب العلمية ، وما بعد الحق إلا الضلال .