وأملى لهم : مد لهم في الأماني والآمال .
25- { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } .
قيل : إن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين ، الذين خالطوا المسلمين وشاهدوا هداية الله لهم ، ثم رجعوا إلى الكفر ، وقيل : نزلت في بعض اليهود ، دخلوا في الإسلام ، وشاهدوا هداية القرآن ، وتوفيق وأمانة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم مرضت قلوبهم وحقدوا وحسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فعادوا إلى اليهودية ، وقيل : نزلت في بعض الكفار .
والأولى أن نقول : إن الآية عامة ، وتشمل كل من تنطبق عليهم .
إن الذين دخلوا في الإسلام ، ثم نكصوا على أعقابهم ، ورجعوا إلى الضلال بعد أن تبين لهم الهدى ، وعادوا إلى الكفر بعد أن شاهدوا نور الإسلام ، وإعجاز القرآن وفضله وبركته وهدايته ، وآدابه وتشريعاته ، هؤلاء وقعوا أسرى لإغراء الشيطان ، ووسوسته لهم بطول الأمد والاغتراف من الملذات ، والمغانم الدنيوية ، فآثروا العاجلة على الباقية ، كما قال تعالى :
{ بل توثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى } . ( الأعلى : 16 ، 17 ) .
قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } رجعوا كفاراً ، { من بعد ما تبين لهم الهدى } قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم . وقال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : هم المنافقون . { الشيطان سول لهم } زين لهم القبيح ، { وأملى لهم } قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله ، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك ، وتروى هذه القراءة عن يعقوب ، وقرأ الآخرون : ( وأملى لهم ) بفتح الألف ، أي : وأملى الشيطان لهم ، مد لهم في الأمل .
قوله تعالى : " إن الذين ارتدوا على أدبارهم " قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، قاله ابن جريج . وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون ، قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن . " الشيطان سول لهم " أي زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن . " وأملى لهم " أي مد لهم الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر ، عن الحسن أيضا . وقال : إن الذي أملى لهم في الأمل ومد في آجالهم هو الله عز وجل ، قاله الفراء والمفضل . وقال الكلبي ومقاتل : إن معنى " أملى لهم " أمهلهم ، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم . وقرأ أبو عمرو وابن إسحاق وعيسى بن عمرو أبو جعفر وشيبة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء ، على ما لم يسم فاعله . وكذلك قرأ ابن هرمز ومجاهد والجحدري ويعقوب ، إلا أنهم سكنوا الياء على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنه يفعل ذلك بهم ، كأنه قال : وأنا أملي لهم . واختاره أبو حاتم ، قال : لأن فتح الهمزة يوهم أن الشيطان يملي لهم ، وليس كذلك ، فلهذا عدل إلى الضم . قال المهدوي : ومن قرأ " وأملى لهم " فالفاعل اسم الله تعالى . وقيل الشيطان . واختار أبو عبيد قراءة العامة ، قال : لأن المعنى معلوم ، لقوله : " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه " {[13952]} [ الفتح : 9 ] رد التسبيح على اسم الله ، والتوقير والتعزير على اسم الرسول .
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم } نزلت في المنافقين الذين نافقوا بعد إسلامهم وقيل : نزلت في قوم من اليهود كانوا قد عرفوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ثم كفروا به . { سول لهم } أي : زين لهم ورجاهم ومناهم .
{ وأملى لهم } أي : مد لهم في الأماني والآمال والفاعل هو الشيطان وقيل : الله تعالى والأول أظهر ، لتناسب الضمير بين الفاعلين ، في سول وأملى .
ولما أخبر سبحانه وتعالى بأقفال قلوبهم ، بين منشأ ذلك ، فقال مؤكداً تنبهاً لمن لا يهتم به-{[59764]} على أنه مما ينبغي الاهتمام بالنظر فيه ليخلص الإنسان نفسه منه ، وتكذيباً لمن يقال : إن ذلك حسن : { إن الذين ارتدوا } أي عالجوا نفوسهم في منازعة{[59765]} الفطرة الأولى في الرجوع عن الإسلام ، وهو المراد بقوله : { على أدبارهم } أي من أهل الكتاب وغيرهم ، فقلبوا وجوه الأمور إلى ظهورها ، فوقعوا في الضلال فكفروا .
ولما كان الذي يلامون عليه ترك ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم مما أوحاه الله سبحانه إليه من الشريعة ، لا ما في غرائزهم من الملة التي يكفي في الهداية إليها نور العقل ، وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت ، أثبت الجار فقال : { من بعد ما تبين } غاية البيان {[59766]}الذي لا خفاء معه بوجه وظهر غاية الظهور{[59767]} { لهم } بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن {[59768]}بيان مبين{[59769]} { الهدى } أي الذي أتاهم به رسولنا صلى الله عليه وسلم .
ولما كانوا قد أحرقوا بذلك أنفسهم وأبعدوها به غاية البعد عن كل خير ، عبر عن المغوي بما يدل على ذلك فقال تعالى{[59770]} : { الشيطان } أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة { سول } أي{[59771]} حسن { لهم } بتزيينه وإغوائه الذي حصل لهم منه استرخاء في عزائمهم وفتور{[59772]} في هممهم فجروا معه في مراده في طول الأمل ، والإكثار من مواقعه الزلل والأماني من جميع الشهوات والعلل ، بعد أن زين لهم سوء العمل{[59773]} ، بتمكين الله له منهم ، {[59774]}وهذا لما علم سبحانه منهم حال الفطرة الأولى{[59775]} { وأملى لهم * } أي أطال في ذلك ووسع بتكرار ذلك عليهم على تعاقب الملوين ومر الجديدين حتى{[59776]} نسوا المواعظ وأعرضوا عن الذكر هذا على قراءة الجماعة بفتح الهمزة واللام ، وأما على قراءة البصريين{[59777]} بضم الهمزة وكسر اللام فالمراد أن الله تعالى هو المملي - أي الممهل - لهم بإطالة العمر وإسباغ النعم ، وتسهيل الأماني والحلم ، عن المعاجلة بالنقم ، حتى اغتروا ، وهي أيضاً{[59778]} موافقة لقوله تعالى
{ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم {[59779]}إن كيدي متين{[59780]} }[ القلم : 45 ] ، وأما في قراءة أبي عمرو بفتح الياء فهو{[59781]} فعل ماض مبني للمفعول ، ودل على أن المملي هو الله سبحانه وتعالى قراءة يعقوب بإسكان الياء على أنه مضارع همزته للمتكلم .