السكنى والنفقة للمعتدة ، وأجر الرضاع
{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( 6 ) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( 7 ) }
من وُجدكم : من وسعكم ، وقال الفراء : على قدر طاقتكم .
ولا تضارّوهن : في النفقة والسكنى .
لتضيقوا عليهن : لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان ، أو بإسكان من لا يردن السكنى معه .
ائتمروا بينكم بمعروف : تشاوروا ، وأن يأمر بعضكم بعضا باليسر والتسامح في الأجرة والإرضاع ، فلا يكن من الأب مماسكة ، ولا من الأم معاسرة .
وإن تعاسرتم : بأن كان من الأب مضايقة ، أو من الأم ممانعة .
6-{ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } .
أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها ، على قدر طاقتكم ومقدرتكم ، فإن كل موسرا وسّع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر طاقته .
قال قتادة : ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد ، في بعض نواحيه .
{ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ . . . }
ولا تستعملوا معهنّ الضرار في السكنى بشغل المكان ، أو بإسكان غيرهن معهن ممن لا يُحْبِبْنَ السكنى معه ، لتلجئوهن إلى الخروج من مساكنهن .
{ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ . . . }
إذا كانت المطلقة حاملا ، فيجب الإنفاق عليها وعلى حملها حتى تضع الحمل .
وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة ، أما المطلقة طلقة رجعية ، فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا .
وقال أبو حنيفة : تجب النفقة والسكنى لكلّ مطلقة ، وإن لم تكن ذات حمل ، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المبتوتة : " لها النفقة والسكنى " ، لأن ذلك جزاء الاحتباس ، وهو مشترك بين الحامل وغيرها .
وأرى أن ذلك من محاسن الدين الإسلامي ، ومن التكافل الاجتماعي ، ومن رعاية المطلقة والإنفاق عليها في فترة العدّة ترضية لها ، وقياما بحقها ، فقد قدّمت لزوجها ما قدمت في فترة الزواج ، فيجب أن يرعاها ويتكفل بها بعد الطلاق في فترة العدة ، لأنها محبوسة وممنوعة من الزواج بسبب أن كل زواج تعقبه عدة لتعرّف براءة الرحم ، فنفقة العدّة تكون على الزوج ، لأن من حقوق الزوجة على زوجها النفقة .
{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ . . . }
إذا طُلقت المرأة وقامت بإرضاع الولد ، فإن نفقة الرضاع على الزوج ، فلها أجر المثل .
وفي هذا إشارة إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج ، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات .
{ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ . . . }
أي : تشاوروا وتعاونوا ، وتدارسوا موقف الأبناء بعد الطلاق ، لعمل اللازم لهم ، ولا تجعلوا المال عائقا عن مواصلة الرعاية النفسية والاجتماعية والنفقة على الأولاد ، فالوالد مطالب بالسخاء على أولاده ، والأم مطالبة بالحضانة والكفالة ، ولها أجر المثل .
وهذه الفقرة فيها مناشدة للأزواج والزوجات المطلّقات تدارس الموقف ، واللجوء إلى المعروف ، والتفاهم والتيسير بشأن الذّرية ورعايتها بعد انفصال الزوجين ، وما أحرى المسلمين في هذه الأيام بالتخلّق بأخلاق القرآن ، وترك الكيد من أحد الزوجين للآخر بعد الطلاق .
فنجد رجلا ترك أولاده لزوجته ، تقوم هي بتعليمهم والإنفاق عليهم ، وقد أخلّ هو بما يجب عليه ، ونقول له : أين قوله تعالى : { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ . . . }
{ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } .
إن شحّ الأب بالمال ، أو تعسّفت الأم في طلب أجرة أكثر من أجرة المثل ، فليحضر الأب مرضعا أخرى ترضع الرضيع بالأجر ، فإذا قبلت الأمّ بأجر المثل فهو أحق بابنها ، لما تشتمل عليه الأم من الحنان والحبّ .
فإذا لم يقبل الرضيع ثدي مرضع أخرى غير أمه ، وجب على أمه الرضاع ولها أجر المثل .
ويرى بعض المفسرين أن هذه الفقرة فيها لوم للأم ومعاتبة لها ، كقولك لمن تستقضيه حاجة فيتوانى عن قضائها : سيقضيها غيرك ، بمعنى ستقضى وأنت ملوم .
فالأم أكثر حنوا وشفقة ، وينبغي تعاون الطرفين ، الأب والأم ، من أجل مصلحة الصغير .
{ أسكنوهن من حيث سكنتم } أمر الله بإسكان المطلقة طول العدة فأما المطلقة غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السكنى والنفقة باتفاق ، وأما المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها يجب لها السكنى دون النفقة وهو مذهب مالك والشافعي .
والثاني : يجب لها السكنى والنفقة وهو مذهب أبي حنيفة .
والثالث : أنها ليس لها سكنى ولا نفقة ، فحجة مالك حديث فاطمة بنت قيس وهو أن زوجها طلقها البتة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك عليه نفقة " ، فيؤخذ من هذا أن لها السكنى دون النفقة ، وحجة من أوجب لها السكنى : قال عمر بن الخطاب : لا ندع آية من كتاب ربنا لقول امرأة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لها السكنى والنفقة ، وحجة من لا يجعل لها لا سكنى ولا نفقة أن في بعض الروايات عنها أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى ، وقوله : { من حيث سكنتم } معناه : أسكنوهن مكانا من بعض مساكنكم فمن للتبعيض ، ويفسر ذلك قول قتادة لو لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه .
{ من وجدكم } الوجد هو الطاقة والسعة في المال فالمعنى أسكنوهن مسكنا مما تقدرون عليه ، وإعرابه عطف بيان لقوله : { حيث سكنتم } ويجوز في الوجد ضم الواو وفتحها وكسرها وهو بمعنى واحد ، والضم أكثر وأشهر .
{ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } اتفق العلماء على وجوب النفقة في العدة للمطلقة الحامل عملا بهذه الآية وسواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا واتفقوا على أن للمطلقة غير الحامل النفقة في العدة إذا كان الطلاق رجعيا فإن كان بائنا فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور لأنهم رأوا أن هذه الآية إنما هي في المطلقات وقال قوم : لها النفقة في التركة .
{ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } المعنى : إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم فآتوهن أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن حسبما ذكر في كتب الفقه .
{ وائتمروا بينكم بمعروف } هذا خطاب للرجال والنساء والمعنى : أن يأمر كل واحد صاحبه بخير من المسامحة والرفق والإحسان وقيل : معنى ائتمروا تشاوروا ومنه إن الملأ يأتمرون بك .
{ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } المعنى إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع وطلبت منه كثيرا فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق له إلا أن لا يقبل الطفل غير ثدي أمه فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج .
قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى 6 لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } .
هذه جملة من أحكام المرأة المطلقة حال اعتدادها . وهي أحكام ربانية تفيض بالعدل والرحمة والرفق والحسنى التي يفرضها الإسلام على الرجال للنساء دفعا للحيف عنهن ودرءا للأذى والإضرار أن يحيق بهن . فأيما إضرار يقع على المرأة في نفسها أو مالها أو سمعتها وكرامتها فإنه محظور وينبغي دفعه وإزالته . قال سبحانه : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } من وجدكم ، يعني من سعتكم وطاقتكم وذلك في المطلقات وهن يقضين عدتهن فعلى الأزواج أن يسكنوهن عندهم حال اعتدادهن مما يجدونه من السعة ، من غير حرج في ذلك حتى تنتهي عدتهن .
قوله : { ولا تضارّوهن لتضيّقوا عليهن } المضارة ، إلحاق الضرر بها . فيحرم على من طلّق زوجته أن يضارها أو يضاجرها فيؤذيها بوجه من وجوه الإضرار والأذى ليضطرها بذلك أن تخرج من مسكنها أو تفتدي من زوجها المضارّ بمالها .
قوله : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وهذا في البائن إن كانت حاملا فإنها تجب لها النفقة حتى تضع . أما الرجعية فإنها تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا . قال ابن عباس في ذلك : هذا في المرأة يطلقها زوجها فيبتّ طلاقها وهي حامل فيأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع .
قوله : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } يعني إذا وضعت نساؤكم حملهن وهن طوالق ، فقد بنّ منكم بانقضاء عدتهن . ولهن حينئذ الخيار بإرضاع أولادهن منكم أو عدم إرضاعهم . لكنهن عليهن إرضاعهم اللبأ وهو بكسر اللام ومعناه أول اللبن في النّتاج{[4567]} أو هو باكورة اللبن ، وهو غذاء لا يستغني عنه الطفل في الغالب . وعلى هذا إذا أرضعت البائن الولد فقد استحقت بذلك أجر مثلها ولها أن تعاقد ولي أمر الولد على ما يتفقان عليه من أجرة في مقابلة إرضاع الولد .
قوله : { وأتمروا بينكم بمعروف } والخطاب للآباء والأمهات ، أو للأزواج والزوجات ، وائتمروا من الائتمار وهو أن يأمر بعضكم بعضا { بمعروف } أي بالجميل والمسامحة من غير إضرار أو مضارة ، فإن الرضيع ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه .
قوله : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } يعني إذا اختلف الأب والأم في أجرة الرضاع فطلبت الأم أجرة كبيرة ولم يجبها الأب أو ضنّ بذلك فلم يعطها إلا نزرا فليستأجر الأب لولده مرضعة أخرى . ولو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية كانت هي أحق بإرضاعه لإشفاقها عليه .