الذين يجتنبون : ( الذين ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون . . . ، والجملة بيان لمن اهتدى .
كبائر الإثم : ما عظم من الذنوب ، وما كبر عقابه .
الفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما فحش من الكبائر ، يقال : فحش يفحش فحشا ، أي : قبح أشد القبح ، مثل : الزنا والسرقة والقتل .
إلا اللمم : إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره ، ومنه : لمة الشعر ، لأنها دون الوفرة .
فلا تزكوا أنفسكم : فلا تصفوها بالطهارة .
أجنّة : جمع جنين ، وهو الولد ما دام في بطن أمه .
32- { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .
من سعة رحمة الله وفضله أن يمدح عباده المتقين ، وأن يصفهم باجتناب كبائر الذنوب ، مثل : السحر واليمين الغموس ، والتولّي يوم الزحف ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، وهم يبتعدون عن الفواحش – جمع فاحشة – وهي ما تناهى قبحها عقلا وشرعا ، كالزنا والسرقة والقتل .
وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله ، كالقبلة والغمزة والنظرة .
وقال ابن كثير : اللمم : صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
وعن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " xii . رواه الشيخان ، وأحمد .
وقال عبد الرحمن بن نافع : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم . فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل وهو الزنا .
وروى ابن جرير ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم ، قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .
إن تغفر اللهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك ما ألمّا ؟
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ . . . }
قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعودxiii . 1ه .
لقد فتح الله تعالى أبواب التوبة أمام التائبين ، وحث عباده على ذلك ، ودعاهم إلى التوبة في كل وقت ، وبذلك يتخلص الإنسان من الإحباط والإثم ، والشعور بالدّونية ، حيث يتطهر ويصلي ركعتين بنية التوبة ، ويسأل الله تعالى أن يغفر له ، وأن يتوب عليه ، فيجيبه الغفور الرحيم .
قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . } ( الزمر : 53 )
وقال سبحانه وتعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } . ( طه : 82 )
وهذه الآية الكريمة تتحدث عن فضل الله ورحمته ، فتقول : إن ربك واسع المغفرة . . . فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها .
قال البيضاوي : ولعله عقّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين ، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ . . . }
حيث خلق أبانا آدم من الأرض ، فقد خلقه من التراب ، واختلط التراب بالماء فصار طينا ، وترك الطين فترة حتى تغيّر فأصبح حمأ مسنونا ، وبعد فترة أصبح كالفخار ، فهي مراحل مرّ بها الإنسان .
الإنسان مكون من النطفة ، وهي خلاصة الدم ، والدم خلاصة الغذاء ، والغذاء يأتي من الأرض .
{ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . . }
أي : وهو أعلم بكم وقت كونكم في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة بعضها يلي بعضا ، وهو سبحانه عليم بما في الأرحام ، وما ينتظر الجنين من رزق ، وسعادة أو شقاوة .
والإله العليم ينبغي أن نعتمد عليه ، وأن نتذكر نعماءه ، وأنه سبحانه يرى ويطّلع ، ويحاسب ويجازي .
{ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .
لا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب ، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى ، فإن النفس خسيسة ، إذا مُدحت اغترّت وتكبّرت .
أو الزموا الإخلاص وصدق المراقبة لله ، والخوف من غضب الجبار ، ومن سوء الخاتمة ، فإن الله مطلع على عبيده ، وهو عليم بمن أخلص العمل واتقى من ربّه في السر والعلن .
والآية دعوة إلى التوبة ، والمسارعة إلى رحمة الله وفضله ، وفيها دعوة إلى الإخلاص ، مع الخوف من الله ، والرجاء في رحمته ، واليقين بسعة علمه ومراقبته ، واطلاعه على الظاهر والباطن سبحانه وتعالى .
نهى القرآن عن تزكية المرء نفسه وعن مدحها والثناء عليها ، أو ادعاء العصمة من الصغائر ، أو الطهارة من المعاصي ، لأن العاقبة مجهولة ، وعلينا أن نحمد الله على الطاعة ، وأن نحذر المعصية ، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي ، وعلينا ألا نمدح الآخرين في وجوههم .
روى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، قطعت عنق صاحبك – مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ، ولا أزكّي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " . xiv
ثم وصف المحسنين بقوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم } ما كبر عقابه من الذنوب . { والفواحش } ما عظم قبحه من الكبائر . { إلا اللمم } ما صغر من الذنوب ؛ كالنظرة والغمزة والقبلة ؛ من قولهم : ألمّ بالمكان ، إذا قل لبثه فيه . وألمّ بالطعام : إذا قل أكله منه . وقيل : هو مقاربة الذنب من غير مواقعته ؛ فهو الهم به دون أن يفعله . من قولهم : ألم الشيء : قرب . وألم بكذا : قاربه ولم يخالطه . والجمهور على أن الذنوب منقسمة إلى كبائر وضغائر . وضابط الكبيرة : ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد في الكتاب أو السنة . وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكثرات مرتكبها بالدين ورقة الديانة . وقيل غير ذلك . واعتمد الواحدي أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به . وقد أخفى الله أمرها ليجتهدوا في اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجتنب الكبائر . وعرفها بعضهم بالعد ، ومنها الموبقات السبع [ تراجع الزواجر لابن حجر ] .
{ هو أعلم بكم . . . } أي يعلم أحوالكم ، إذا أنشأكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم من تراب . { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } فيعلم أطواركم فيها ، وحاجتكم إلى الغداء ، ويعلم العدد والذكورة والأنوثة ، ووقت الانفصال عن الأم ، ومدة المكث في الرحم ، وغير ذلك من شئونها . { فلا تزكوا أنفسكم } أي إذا كان عدم المؤاخذة باللمم مع كونه من الذنوب ، إنما هي لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره منكم : فلا تمدحوا أنفسكم بالطهارة من الذنوب بالكلية ، بل اشكروه تعالى على فضله وواسع مغفرته .
كبائر الإثم : الجرائم الكبرى كالقتل والسرقة وما يترتب عليه حد .
والفواحش : أيضا من الكبائر وهي ما عظُم قبحها .
اللّمم : مقاربة الذنب والدنو منه ، أو ما صغُر من الذنوب .
أجنّة : جمع جنين ، وهو الولد ما دام في بطن أمه .
وقد بيّن أوصافَ المحسِنين بقوله تعالى : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم }
يعني أن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائرِ المعاصي والفواحش ، فإذا وقعوا في معصيةٍ وتابوا فَ { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } يغفر كل ذنب كما قال تعالى : { قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ] . وعلى هذا يكون اللَّمَمُ هو الإتيان بالمعصِية ( من أيّ نوعٍ ) ثم يتوب عنها .
ولذلك ختم الآية بأن هذا الجزاء ، بالسُّوء والحسنى ، مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } فهو أعلمُ بأحوالكم ، وعندَه الميزانُ الدقيق ، وجزاؤه العدْل ، واليه المرجع والمآل .
ويرى كثير من المفسرين أن الآية تعني أن الذي يجتنب الكبائرَ يكفِّر الله عنه الصغائرَ ، كما قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، وهذه الآية مدنية . وعلى كل حالٍ فالله تعالى واسعُ المغفرة ، رؤوف بعباده حليم كريم .
قرأ حمزة والكسائي وخلف : الذين يجتنبون كبير الإثم بالإفراد ، والباقون : كبائر الإثم بالجمع .
ثم ذكر وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } أي : يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات ، التي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، كالزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة ، { إِلَّا اللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار ، التي لا يصر صاحبها عليها ، أو التي يلم بها العبد ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء ، ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر " [ وقوله : ] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى بعض{[902]} المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية ، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم{[903]} الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم ، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه ، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين{[904]} أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح{[905]} .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من بر وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا ] .
ثم وصفهم فقال قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية ، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك ملك كريم . وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : إلا اللمم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما " . وأصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ، ولا إقامة . وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن أسلم ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمود بن غيلان ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه ( باللمم ) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أويكذبه " . ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد : " والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطأ " .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو : الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب يعني خطر . وقال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب . { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام ها هنا ، ثم قال : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يعني خلق أباكم آدم من التراب ، { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين ، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن ، { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرئوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها . قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { هو أعلم بمن اتقى } أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
قوله تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " هذا نعت للمحسنين ، أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ؛ لأنه أكبر الآثام . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " كبير " على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك . " والفواحش " الزنى : وقال مقاتل : " كبائر الإثم " كل ذنب ختم بالنار . " والفواحش " كل ذنب فيه الحد . وقد مضى في " النساء{[14392]} " القول في هذا . ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : " إلا اللمم " وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه{[14393]} الله وحفظه . وقد اختلف في معناها ؛ فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي : " اللمم " كل ما دون الزنى . وذكر مقاتل بن سليمان : أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار ، كان له حانوت يبيع فيه تمرا ، فجاءته امرأة تشتري منه تمرا فقال لها : إن داخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ، فقال : ( لعل{[14394]} زوجها غاز ) فنزلت هذه الآية ، وقد مضى في آخر " هود{[14395]} " وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق : إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة . وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال : زنى العينين النظر ، وزنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج ، فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لمما . وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . والمعنى : أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم . والله أعلم .
وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة{[14396]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ) . خرجه مسلم . وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل ، وزاد فيه بعد العينين واللسان : ( وزنى الشفتين القبلة ) . فهذا قول . وقال ابن عباس أيضا : هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب . قال : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
إن يغفرِ الله يغفر جَمّا *** وأي عبد لك لا أَلَمّا
رواه عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس{[14397]} . قال النحاس : هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادا . وروى شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا اللمم " قال : هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده ، قال الشاعر{[14398]} :
إن تغفرِ اللهم تغفر جَمّا *** وأي عبد لك لا أَلَمّا
وكذا قال مجاهد والحسن : هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده ، ونحوه عن الزهري ، قال : اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود ، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود . ودليل هذا التأويل قوله تعالى : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم{[14399]} " [ آل عمران : 135 ] الآية . ثم قال : " أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم{[14400]} " [ آل عمران : 136 ] فضمن لهم المغفرة ؛ كما قال عقيب اللمم : " إن ربك واسع المغفرة " فعلى هذا التأويل يكون " إلا اللمم " استثناء متصل . قال عبدالله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقيل : اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا ، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس . قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة . ورواه العوفي والحكم بن عتيبة عن ابن عباس . وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش . والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه . وعن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وزيد بن ثابت : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به . وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت وقاله زيد بن أسلم وابنه{[14401]} ؛ وهو كقوله تعالى : " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف{[14402]} " [ النساء : 23 ] . وقيل : اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة ، قاله نفطويه . قال : والعرب تقول ما يأتينا إلا لماما ، أي في الحين بعد الحين . قال : ولا يكون أن يلم ولا يفعل ؛ لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله . وفي الصحاح : وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة . وأنشد غير الجوهري :
بزينبَ أَلْمِمْ قبل أن يرحل الرَّكْبُ *** وقلْ إن تَمَلِّينَا فما مَلَّكِ القلب
أي اقرب . وقال عطاء بن أبي رباح : اللمم عادة النفس الحين بعد الحين . وقال سعيد بن المسيب : هو ما ألم على القلب ، أي خطر . وقال محمد بن الحنفية : كل ما هممت به من خير أو شر فهو لمم . ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن للشيطان لَمّة وللملك لَمّة ) الحديث . وقد مضى في " البقرة{[14403]} " عند قوله تعالى : " الشيطان يعدكم الفقر " . وقال أبو إسحاق الزجاج : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلا لمما وإلماما ، أي الحين بعد الحين . وإنما زيارتك إلمام ، ومنه إلمام الخيال ، قال الأعشى :
أَلَمّ خيالٌ من قُتَيْلَةَ بعدما *** وَهَى حَبْلُهَا من حبلنا فَتَصَرَّمَا
وقيل : إلا بمعنى الواو . وأنكر هذا الفراء وقال : المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب . وقيل : اللمم النظرة التي تكون فجأة .
قلت : هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به ؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار ، وقد مضى في " النور{[14404]} " بيانه . واللمم أيضا طرف من الجنون ، ورجل ملموم أي به لمم . ويقال أيضا : أصابت فلانا لَمّة من الجن وهي المس والشيء القليل ، قال الشاعر{[14405]} :
فإذا وذلك يا كُبَيْشَةُ لم يكن *** إلا كَلَمَّةِ حالمٍ بِخَيَالِ
قوله تعالى : " إن ربك واسع المغفرة " لمن تاب من ذنبه واستغفر ، قاله ابن عباس . وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود : رأيت في المنام كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة ، فقلت : لمن هذه ؟ فقالوا : لذي الكلاع وحوشب ، وكانا ممن قتل بعضهم بعضا ، فقلت : وكيف ذلك ؟ فقالوا : إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة . فقال أبو خالد : بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثني عشر ألف بنت .
" هو أعلم بكم " من أنفسكم " إذ أنشأكم من الأرض " يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع . قال الترمذي أبو عبدالله : وليس هو كذلك عندنا ، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض ، وكنا جميعا في تلك التربة وفي تلك الطينة ، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذَرْوِ النفوس على اختلاف هيئتها ، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات ، منهم كالدر يتلألأ ، وبعضهم أنور من بعض ، وبعضهم أسود كالحُمَمَة ، وبعضهم أشد سوادا من بعض ، فكان الإنشاء واقعا علينا وعليه . حدثنا عيسى بن حماد العسقلاني قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة ) فقال قائل : يا رسول الله ! ومن مضى من الخلق ؟ قال : ( نعم عرض علي آدم فمن دونه فهل كان خلق{[14406]} أحد ) قالوا : ومن في أصلاب الرجال وبطون الأمهات ؟ قال : ( نعم مثلوا في الطين فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها ) .
قلت : وقد تقدم في أول " الأنعام{[14407]} " أن كل إنسان يخلق من طين البقعة التي يدفن فيها . " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن ، سمي جنينا لاجتنانه واستتاره . قال عمرو بن كلثوم :
هِجَانُ اللون لم تَقْرَأْ جَنِينا{[14408]}
وقال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا رضعا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شيوخا لا أبالك - فما بعد هذا ننتظر ؟ ! . وروى ابن لهيعة عن الحرث بن يزيد عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير : هو صديق ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ) فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية : " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض " إلى آخرها . ونحوه عن عائشة : ( كان اليهود ) . بمثله .
" فلا تزكوا أنفسكم " أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها ، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع .
" هو أعلم بمن اتقى " أي أخلص العمل واتقى عقوبة الله ، عن الحسن وغيره . قال الحسن : قد علم الله سبحانه كل نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة . وقد مضى في " النساء " الكلام في معنى هذه الآية عند قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم{[14409]} " [ النساء : 49 ] فتأمله هناك . وقال ابن عباس : ما من أحد من هذه الأمة أزكيه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان ، وصفهم فقال : { الذين يجتنبون } أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا { كبائر الإثم } أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد ، وعطف على { كبائر الإثم } قوله : { والفواحش } والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه .
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون فما دون كان مغفوراً له ، صرح به فقال : { إلا } أي لكن { اللمم } معفو ، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن ، فهو استثناء منقطع ، ولعله وضع فيه { إلا } موضع { لكن } إشارة إلى{[61730]} الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى
{ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم }{[61731]} واللمم هو صغار الذنوب ، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صاحبه فلتة بغير اختيار منه ، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة ، قال الرازي في اللوامع : وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل ، قال ذو النون : ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى . يقال : وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه ، وقال البغوي{[61732]} : قال السدي : قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، قال : فذكرت ذلك{[61733]} لابن عباس رضي الله عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، ثم قال البغوي : فأصل اللمم والإلمام ما{[61734]} يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة{[61735]} ولا إقامة عليه{[61736]} - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً .
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت ، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا ، علل ذلك بقوله : { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك { واسع المغفرة } فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه ، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله .
ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم ، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن ، قال نافياً لذلك : { هو أعلم بكم } أي بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم { إذ } أي حين { أنشاكم } ابتداء { من الأرض } التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح { وإذ } أي حين { أنتم أجنة } أي مستورون . ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن ، حقق معناه بقوله : { في بطون أمهاتكم } بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء ، فنشأت الحرارة والرطوبة ، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية ، ولكن لا علم لكم أصلاً ، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً .
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان ، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى ، سبب عن ذلك قوله : { فلا تزكوا } أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة { أنفسكم } أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قاله القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه ، وربما حصل له الأذى بسببه " وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع " الحديث ، ولذلك علل بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن جميع الخلق { بمن اتقى } أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى ، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً .
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى }
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا الَّلمَمَ } هو صغار الذنوب كالنظرة والقبلة واللمسة فهوا استثناء منقطع والمعنى لكن اللمم يغفر باجتناب الكبائر { إن ربك واسع المغفرة } بذلك وبقبول التوبة ، ونزل فيمن كان يقول : صلاتنا صيامنا حجنا : { هو أعلم } أي عالم { بكم إذ أنشأكم من الأرض } أي خلق آباكم آدم من التراب { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } لا تمدحوها على سبيل الإعجاب أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن { هو أعلم } أي عالم { بمن اتقى } .