صغت قلوبكما : مالت قلوبكما عن الحق ، وعدلت عما يجب للرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال .
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيم وإجلال .
ظهير : ظهراء معانون ، وأنصار مساعدون .
4- { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }
تأتي هذه الآية لتوجيه عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، إلى التوبة النصوح والتفرغ إلى ذكر الله وطاعته .
وقد جرت العادة بأنّ الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيّع زمنا من تفكيرهم فيها .
وتبين الآية أن قلبي عائشة وحفصة قد انشغلا بتدبير مؤامرة ، يترتب عليها أن يزهد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه ، والنبي الكريم يربي أمة ، ويوجّه دعوة ، وينزل عليه الوحي ، ويبلّغ الوحي للناس ، ويقود الجيوش ، ويرسل السرايا ، وينظم شئون الأمة الإسلامية صباح مساء ، فينبغي أن يتوفّر له القدر الكافي من الهدوء النفسي والمعنوي .
لذلك حمل القرآن حملة قوية على عائشة وحفصة ، وذكّرهما أن قلوبهما قد مالت عن الانشغال بطاعة الله إلى عمل مؤامرة لتزهيد النبي صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه .
إن تتوبا إلى الله تعالى مما بدر منكما ، فذلك حق واجب ، وخير كبير ، لأن قلوبكما قد انصرفت عن الإخلاص والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحب ما يحبه ، وكراهة ما يكرهه ، إلى تدبير مؤامرة منكما ليكره بعض نسائه
وإن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوءه ، من الوقيعة بين بنيه وبين بعض نسائه ، فإن تعاونكما وتظاهركما عليه فاشل ضائع ، لأن هناك قوة عليا ، وجيوشا متعاونة ، تؤازر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتشد أزره .
فإن الله . مولاه وناصره ، وكفى به وليا ونصيرا .
وصالح المؤمنين . وأبو بكر وعمر ، والصالحون من المؤمنين نصراء له .
والملائكة بعد ذلك ظهيرا . والملائكة هم أعظم المخلوقات ، بمثابة جيش جرار ، يملأ القفار ، نُصْرة للنبي المختار ، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ، والآية مسوقة لتعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان منزلته العالية ، وأن الدنيا كلها تسانده ، وأيضا للتأثير العاطفي على نسائه ، حتى يَكففن عن التآمر عليه ، وحتى يتفرغ كليا لأمر دعوة الإسلام .
وقد كان يكفي أن يقال : فإن الله هو مولاه . ومن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء ، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يبين أن الكون كله معه ، فخالق الكون معه ، والكون كله معه .
وقد ثبت في الصحيح ما يفيد أن هذا الأمر شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتزل نساءه شهرا ، وأنّ ذلك شق على المسلمين ، وحزنوا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه .
ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، ما يشقّ عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل ، وأبو بكر وعمر معك ، فنزلت هذه الآية موافقة لقول عمر رضي الله عنه .
إذا تظاهرتما عليه فلن يضرّه ، لأن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير .
صغت قلوبكما : مالت إلى ما يجب للرسول الكريم من تعظيم وإجلال .
وإن تظاهرا عليه : تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول .
ثم وجّه تعالى الخطابَ إلى حفصةَ وعائشة مبالغةً في العتاب والتحذير فقال :
{ إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
إن ترجعا إلى الله بالتوبة عن مثلِ هذه الأعمال التي تؤذي النبيَّ فقد مالت قلوبُكما إلى الحقّ والخير .
ثم بيّن الله أنه حافظٌ لرسوله الأمين وحارسُه فلا يَضُرُّه أذى مخلوقٍ فقال :
{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } .
إن تتعاونا يا عائشة وحفصة في العمل على ما يؤذي النبيَّ ويسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء السر ، فلن يضرّه ذلك شيئا ، فالله ناصرهُ وجبريلُ والمؤمنون الصالحون والملائكة كلّهم مظاهرون له ومعينون .
قرأ أهل الكوفة : تظاهرا بفتح التاء والظاء من غير تشديد . وقرأ الباقون : تظاهرا بفتح التاء والظاء المشددة .
قرأ حفص ونافع وأبو عمرو وابن عامر : جبريل بكسر الجيم والراء من غير همزة . وقرأ أبو بكر : جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة قبل الياء .
{ إن تتوبا إلى الله } أي من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء . يخاطب عائشة وحفصة ، { فقد صغت قلوبكما } أي زاغت ومالت عن الحق واستوجبتما التوبة . قال ابن زيد : مالت قلوبهما بأن سرهما ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، أنبأنا عبد الله بن عباس قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى لهما : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } حتى حج وحججت معه ، وعدل وعدلت معه بإداوة ، فتبرز ثم جاء ، فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ ، فقلت له : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى لهما :{ إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } فقال : واعجباً لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة . ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال : إني كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً ، فإذا نزلت حدثته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله . وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ! فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل . فأفزعني فقلت : خابت من فعلت منهن بعظيم . ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة ، فقلت : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم ، فقلت : خابت وخسرت ، أفتأمنين أن يغضب الله تعالى لغضب رسوله فتهلكي ، لا تستكثري على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- . قال عمر : وكنا تحدثنا أن غسان تبعث الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته ، فرجع عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً وقال : أثم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ؟ فقلت : ما هو أجاءت غسان ! قال : لا بل أعظم منه وأطول ، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون . فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مشربة فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي ، فقلت : ما يبكيك ألم أكن حذرتك ؟ أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هو ذا في المشربة . فجئت إلى المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلاً ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلي فقال : قد كلمت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتك له فصمت ، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت فقلت للغلام : استأذن لعمر ، فدخل ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فاستأذن ثم رجع إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت . فلما وليت منصرفاً ، فإذا الغلام يدعوني ، فقال : قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك ؟ فرفع إلي بصره فقال : لا ، فقلت : الله أكبر . ثم قلت وأنا قائم أستأنس : يا رسول الله لو رأيتني ، وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -يريد عائشة- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى ، فجلست حين رأيته يبتسم فرفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله تعالى فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسع عليهم وأعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله تعالى ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال : أو في هذا أنت يا ابن الخطاب ؟ إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا . فقلت : يا رسول الله استغفر لي . فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة ، وكان يقول : ما أنا بداخل عليهن شهراً -من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى . فلما مضت تسع وعشرون ليلة ، دخل على عائشة رضي الله عنها فبدأ بها ، فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً فإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً ! فقال : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين ليلة . قالت عائشة : ثم أنزل الله آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فاخترته ، ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل ما قالت عائشة " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه فبدأ بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي بالجواب حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، ثم قال إن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت : أو في هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سماك ابن زميل حدثنا عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : " لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه وذكر الحديث . وقال : دخلت عليه فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . وقلما تكلمت -وأحمد الله تعالى- بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } و{ إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } " . قوله : { وإن تظاهرا عليه } أي تتظاهرا وتتعاونا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم . قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء ، والآخرون بتشديدها . { فإن الله هو مولاه } أي وليه وناصره . قوله : { وجبريل وصالح المؤمنين } روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب : { وصالح المؤمنين } أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال الكلبي : هم المخلصون الذي ليسوا بمنافقين . قوله :{ والملائكة بعد ذلك ظهير } قال مقاتل : بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين ظهير ، أي : أعوان النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا من الواحد الذي يؤدي عن الجمع ، كقوله : { وحسن أولئك رفيقا }( النساء- 69 ) .