{ استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا }
استكبارا : عتوا وتعاليا عن الإيمان .
مكر السيئ : مكر العمل السيئ وهو الشرك وخداع الضعفاء وردهم عن الإيمان والكيد لرسول الله .
سنة الأولين : سنة الله فيهم بتعذيب مكذبيهم .
تبديلا : وضع غير العذاب موضع العذاب .
تحويلا : نقل العذاب من المكذبين على غيرهم .
تكمل هذه الآية الآية السابقة ، فعندما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عنه وابتعدوا وما زادهم دعاؤه وهدايته إلا نفورا منه ومن تفصيل ذلك النفور : تكبرهم واستعلاؤهم بالباطل وادعاؤهم أنهم أعلى شأنا من المؤمنين وأن المؤمنين فقراء ضعفاء ثم اجتهاد هؤلاء الكفار في الكيد والدس ومكر العمل السيئ حيث عذبوا المؤمنين وضايقوهم وحاولوا حبس النبي أو نفيه أو قتله ودبروا الكيد ودبر الله حفظ رسوله وحل بهم عاقبة مكرهم وعلى الباغي تدور الدوائر .
{ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . . . } ولا يحيط المكر السيئ ولا ينزل عقابه إلا بأهله الذين دبروه وبيتوه ومن أمثال العرب : ( من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا ) وقد حاق نمكر هؤلاء بهم يوم بدر حيث قتلوا وأسروا وانهزموا ونصر الله المؤمنين عليهم نصرا عزيزا .
تلك سنة الله التي لا تتخلف أن يمهل الظالمين وأن يحق الحق وأن يأخذ الظالمين بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر .
{ فهل ينظرون إلا سنت الأولين . . . } أي : ما ينظرون إلا سنة الله تعالى في المكذبين السابقين كعاد وثمود حيث أخذهم الله بتعذيب مكذبيهم .
{ فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا } تلك قوانين كونية ثابتة ، وضعها الله تبارك وتعالى ، ومنها أن يرسل الرسل وينزل الكتب ويمهل الناس ويقدم لهم المعجزات والبينات ويوضح لهم صدق الدعوة وأدلة الإيمان فإذا اشتد العنت والتكذيب كانت العاقبة للمتقين والعذاب للكافرين تلك سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول فلا ينقل العذاب عن المكذبين و لا يحوله إلى غيرهم لأنه عادل حكيم فلا يضع الشيء في غير موضعه .
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . الأنفال : 30 ) .
" استكبارا " أي عتوا عن الإيمان " ومكر السيئ " أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء ، وصدهم عن الإيمان ليكثر أتباعهم . وأنث " من إحدى الأمم " لتأنيث أمة . قاله الأخفش . وقرأ حمزة والأخفش " ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ " فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني . قال الزجاج : وهو لحن ، وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر ؛ لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها ، لأنها دخلت للفرق بين المعاني . وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا ، قال : إنما كان يقف عليه ، فغلط من أدى عنه ، قال : والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه ، وأنه أنشد هو وغيره :
إذا اعوججن قلت صاحِبْ قَوِّم{[13176]}
فاليوم أشربْ غير مُسْتَحْقِبٍ *** إثما من الله ولا وَاغِلِ{[13177]}
وهذا لاحجة فيه ؛ لأن سيبويه لم يجزه ، وإنما حكاه عن بعض النحويين ، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة ، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه . وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده :
بوصل الألف على الأمر ، ذكر جميعه النحاس . الزمخشري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ " بسكون الهمزة ، وذلك لاستثقاله الحركات ، ولعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ " ولا يحيق " . وقرأ ابن مسعود " ومكرا سيئا " وقال المهدوي : ومن سكن الهمزة من قوله : " ومكر السيئ " فهو على تقدير الوقف عليه ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات ، كما قال :
قال القشيري : وقرأ حمزة " ومكر السيئ بسكون الهمزة ، وخطأه أقوام . وقال قوم : لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام ، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج ، وقد سبق الكلام في أمثال هذا ، وقلنا : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال : إنه لحن ، ولعل مراد من صار إلى الخطة أن غيره أفصح منه ، وإن كان هو فصيحا . " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " أي لا ينزل عاقبه الشرك إلا بمن أشرك . وقيل : هذا إشارة إلى قتلهم ببدر . وقال الشاعر :
وقد دفعوا المنية فاستقلت *** ذراعاً بعد ما كانت تَحِيقُ
أي تنزل ، وهذا قول قطرب . وقال الكلبى : " يحيق " بمعنى يحيط . والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا أي أحاط به . وعن ابن عباس أن كعبا قال له : إني أجد في التوراة " من حفر لأخيه حفرة وقع فيها " ؟ فقال ابن عباس : فاني أوجدك في القرآن ذلك . قال : وأين ؟ قال : فاقرأ " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ومن أمثال العرب " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول : " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " [ الفتح : 10 ] وقال تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم " [ يونس : 23 ] وقال بعض الحكماء :
يا أيها الظالمُ في فعله *** والظلم مردود على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى *** تُحْصِي المصائبَ وتَنسى النِّعَم
وفي الحديث ( المكر والخديعة في النار ) . فقوله : ( في النار ) يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار ؛ لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث : ( وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة ) . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة ، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة .
قوله تعالى : " فهل ينظرون إلا سنة الأولين " أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين . " فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " أي أجرى الله العذاب على الكفار ، وجعل ذلك سنة فيهم ، فهو يعذب بمثله من استحقه ، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره . والسنة الطريقة ، والجمع سنن . وقد مضى في " آل عمران " {[13178]} وأضافها إلى الله عز وجل . وقال في موضع آخر : " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا " {[13179]} فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين ؛ وهو كالأجل ، تارة يضاف إلى الله ، تارة إلى القوم ؛ قال الله تعالى : " فإن أجل الله لآت " {[13180]} [ العنكبوت : 5 ] وقال : " فإذا جاء أجلهم " . [ النحل : 61 ] .
ولما كانوا قد جبلوا على الضلال ، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح ، علله بقوله : { استكباراً } أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم { في الأرض } أي التي من شأنها السفول والتواضع والخمول { ومكر السيىء } أي ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره ، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله ، وقراءة عبد الله { ومكراً سيئاً } يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته ، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم { ولا } أي والحال أنه لا { يحيق } أي يحيط إحاطة لازمة ضارة { المكر السيىء } أي الذي هو عريق في السوء { إلا بأهله } وإن آذى غير أهله ، لكنه لا يحيط بذلك الغير ، وعن الزهري أنه قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه الآية ، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله { إنما بغيكم على أنفسكم } ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله : { ومن نكث فإنما ينكث على نفسه } " .
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها ، قال مسبباً عن ذلك : { فهل ينظرون } أي ينتظرون ، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر ، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة ، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم . ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له ، وكان الاستفهام إنكاريا ، فكان بمعنى النفي قال : { إلا سنت الأولين } أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم .
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس ، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق ، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره ، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله ، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم : { فلن تجد } أي أصلاً في وقت من الأوقات { لسنت الله } أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها ، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين { تبديلاً } أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له { ولن تجد لسنت الله } أي الذي لا أمر لأحد معه { تحويلاً * } أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه ، لأنه لا كفوء له ، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب ، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته .