تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (60)

جزاء المجرمين

{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 60 ) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ( 61 ) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ( 62 ) } .

المفردات :

ألم أعهد إليكم : العهد : الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة .

عبادة الشيطان : يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة ، وأضيفت إلى الشيطان لأنه الآمر بها ، والمزين لها .

عدو مبين : عدو واضح العداوة .

التفسير :

60 { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } .

تحدث القرآن طويلا عن خلافة الإنسان في الأرض ، وعن خلق آدم وإسكانه الجنة ، وإباحة الأكل له من ثمار الجنة جميعها ما عدا شجرة واحدة ، ثم إغواء الشيطان لآدم وحواء ، وأكلهما من الشجرة ، وخروجهما من الجنة ، وتنبيه الله لبني آدم ، وتحذيرهم من طاعة الشيطان ، الذي أخرج آدم من الجنة ، واستمرّ في عداوته لأبناء آدم والتزيين والفتنة ، رغبة في غواية الإنسان .

قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ . . . } [ الأعراف : 27 ] .

وقال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] .

فالله تعالى بيّن في كتبه المنزَّلة ، وعلى لسان الرسل المرسلة ، جِدّ الشيطان في إغواء الإنسان كما بين القرآن أن كيد الشيطان كان ضعيفا ، فإذا استعان الإنسان بالله ، واستعان بالله من الشيطان الرجيم . أعانه الله ونصره .

قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .

وقال سبحانه : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ، 99 ] .

وقد ورد تحذيرنا من الشيطان في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، وفي سورتي الفلق والناس استعاذة ، أي : تحصّن واستعانة بالله ، والتجاء إليه ، ليحفظنا من وسوسة الشيطان .

وفي موقف القيامة يذكّر الله الناس بما أنزله في كتبه وعلى لسان رسله ، بعدم عبادة الشيطان أي بعدم طاعته والسير وراء وسوسته وتزيينه ، بعبادة آلهة أخرى غير الله ، كالأصنام والأوثان والجاه والسلطان والهوى ، والمرأة والمظهر والدينار والدرهم .

وفي صحيح البخاري : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد المرأة ، تعس عبد الخميصة ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعت رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الساقة ففي الساقة ، وإن كان في المقدمة ففي المقدمة ، وإن استأذن لم يؤذن له " 25 .

وذكر بعض المفسرين أن العهد المذكور في الآية هو الميثاق المأخوذ على بني آدم في عالم الذرّ ، والمشار إليه بقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا . . } [ الأعراف : 172 ] .

وفسر بعضهم عهد : { ألست بربكم } .

بأن الله أودع في الفطرة والعقول ، والأفهام والأفئدة والقلوب ، ما لو تأملت في هذا الكون وما فيه ، وفي الدنيا وما فيها ، وفي المخلوقات ونظام الليل والنهار ، وسير الشمس والقمر ، وحركة الأرض والسماء والفضاء وسائر الأشياء ، لو تأمّلت بفطرتها ومواهبها وعقولها لاهتدت إلى طاعة الرحمان والفرار من طاعة الشيطان .

ومعنى الآية :

ألم أوصكم يا بني آدم ، وأنزل إليكم هدى السماء ، وأنصحكم بعدم عبادة الشيطان وعدم طاعته ، ولأنه لكم عدو بالغ العداوة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (60)

قوله تعالى : " ألم أعهد إليكم يا بني آدم " العهد هنا بمعنى الوصية ، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل . " أن لا تعبدوا الشيطان " أي لا تطيعوه في معصيتي . قال الكسائي : لا للنهي .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَيۡكُمۡ يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُواْ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (60)

ولما أمرهم بالامتياز أمراً إرادياً حكمياً ، فامتازوا في الحال ، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل ، وصروا بالأسنان ، وشخصت منهم الأبصار ، وكلحت الوجوه ، وتقلصت الشفاه ، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان ، وسحبوا على الوجوه ، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول ، وتذوب من ذكره النفوس ، وتنخلع القلوب ، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم إلى ذلك ، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً : { ألم أعهد } أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة ، ومنحت من العقول ، وبعثت من الرسل ، وأنزلت من الكتب ، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة ، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس ، ثم أشار إلى علوه وجلاله ، وعظمه وسمو كماله فقال : { إليكم } .

ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتوبيخهم وتبكيتهم ، وكانت هذه السورة القلب ، وكان القلب أشرف الأعضاء ، وكان الإنسان أشرف الموجودات ، خصه بالخطاب لأنه خطابه خطاب للجن فقال مؤكداً ما أفهمه حرف الغاية من علو رتبته ، وعظيم منزلته بما أشارت إليه أداة البعد : { يا بني آدم } أي فلم أخصكم بذلك عن أبناء غير نوعكم ليكون ذلك التخصيص حاملاً لكم على العصيان بل ليكون موجباً للطاعات والعرفان : { أن لا تعبدوا الشيطان } أي البعيد المحترق بطاعتكم له فيما يوسوس لكم به ، ثم علل النهي عن عبادته بما يقتضي شدة النفرة منه بعد أن لوّح إلى ذلك بوصفه فقال : { إنه لكم } والتأكيد لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته { عدو مبين * } أي ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم العداوة التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشف منها ، ومن جهة أمره لكم بما يبغض الدنيا من التخالف والتخاصم ، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه ، فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً وأوضاراً ، فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي ، فكيف إذا كان عائقاً عن المولى ، فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه .