{ وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( 69 ) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ( 70 ) }
وما ينبغي له : لا يليق به ولا يصلح له .
ذكر : عظة من الله وإرشاد للثقلين .
وقرآن مبين : وكتاب مقروء واضح يقرأ للاعتبار .
69- { وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين } .
لاشك أن القرآن الكريم قد أدهش العرب ، ودخل عليهم من كل باب ، وحاكمهم إلى الحسّ ، ولفت أنظارهم إلى الكون وما فيه ، وذكّرهم بالأمم السابقة ، ووضع أمامهم القيامة والبعث والحشر ، والحساب والصراط والميزان والجنة والنار ، وقد أحسّ الكفار أنه كلام فوق طاقتهم ، وقال بعضهم : إن له حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن فرعه لجناه ، وما يقول هذا بشر ، لكنّهم لم يؤمنوا بالقرآن ، ولم يتّبعوا الرسول ، وتعددت اتهاماتهم للرسول وللقرآن ، ومن هذه التهم : أن محمدا شاعر يجيش صدره بالكلام فيخرجه رفيعا عاليا ، فنفي عنه القرآن هذه التهمة .
ما نزل جبريل ليعلمه الشعر ، وليس ذلك في طبيعة محمد ، فالشعر خيالات وأوهام ، وله بحور وقواف ، وأغراض معروفة وأعذبه أكذبه ، والقرآن هداية من الله ، ومواعظ معلومة ، ووحي نزل من السماء ، داعيا إلى توحيد الله ، متحدثا عن العقيدة الإسلامية ، وما ينبغي لله من كمال وصفات ، كالقدرة والإرادة والسمع والبصر ، وما يحتاج إليه الناس من صنوف العبادات والمعاملات ، فمحمد صلى الله عليه وسلم ليس شاعرا ، والقرآن ليس شعرا ، ولا فنّا من فنون القول ، لأن القرآن كتاب الإسلام قد أحيا أمّة ، وقدم فكرة ، وأنشأ دولة ، وعلّم الناس أجمعين آدابا وأحكاما وهدايات ، ولو أنصف الكفار لقالوا : القرآن شيء فوق الطّاقة ، فيه مالا نقدر عليه ، ونحن نتخَرّص في القول ، ونوجّه التهم إليه وإلى محمد ، ولو أنصفوا صادقين لقالوا : القرآن وحي من السماء .
قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم . . . } [ النمل : 14 ] .
وقال سبحانه : { فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . [ الأنعام : 33 ] .
وقد حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعض عبارات قابلة لأوزان الشعر ، مثل قوله يوم حنين : " أنا النبيّ لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " 30 .
وهذا لا يجعل صاحبه شاعرا ، لأنه كلام يرد على الخاطر من غير قصد إلى الشعر ، ولا تكلّف له ، ولا التفات منه إليه ، إن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ، في خطبهم ورسائلهم أشياء موزونة ، ولا يسمّيها أحدا شعرا ، ولا يخطر ببال السامع ولا المتكلم أنها شعر .
وقد ذكر الزمخشري في الكشاف ، والآلوسي في تفسيره وغيرهما الحكمة من ذلك .
{ وما ينبغي له . . . } أي وما يصح له ، ولا يتطلبه إن طلبه ، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأتّ له ، ولم يتسهل كما جعلناه أمّيا . . لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض . . . ا ه .
نزل القرآن الكريم عربيا مبينا ، مشتملا على صنوف البيان ، وألوان الإعجاز ، وأرقى الأساليب ، وأفصح ألوان البيان وكان النبي صلى الله عليه وسلم فصيحا بليغا وقال صلى الله عليه وسلم : " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر " .
فقد جمع الله له البيان ، والقول الحسن ، والمعرفة الكاملة بسياسة المم ، وحسن الدعوة ، وتألّف القوم ، حتى كان سببا في جمع كلمة الإسلام ، وإحياء أمّته .
قال تعالى : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا* وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } . [ الأحزاب : 46 ، 45 ] .
وقد وردت أحاديث صحيحة تذم الشعر وتنهى عنه ، كما وردت أحاديث صحيحة تمدح الشعر وتحث عليه ، وقد بين العلماء الثقات طريقة التوفيق بين هذه الأحاديث فقالوا : المنهيّ عنه من الشعر ما كان في الهجاء وذكر العورات والفخر الممقوت والمدح الكاذب ، والمحمود من الشعر ما كان فيه تمجيد للفضائل ، ودعوة إلى مكارم الأخلاق ، وآداب الإسلام ، والمحامد والمثل العليا .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرب للقول الجيد ، والخطب الفصيحة ، والشعر الحسن ، فكانت الخنساء تنشد بين يديه ، وكان يستجيد شعرها ، ويقول : " هيه يا خناس " . وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه : " هل تحفظ شيئا من شعر أمية بن أبي الصلت " ؟ قال نعم فأنشد بيتا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هيه " فأنشده آخر حتى أنشده مائة بيت ، وقال صلى الله عليه وسلم عن أمية بن أبي الصلت " ؟ أسلم شعره ، وكفر قلبه " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إن كاد أمية ليسلم " .
وقد استجاد النبي صلى الله عليه وسلم شعر كعب بن زهير ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه عند فتح مكة ، مع عدد ممكن كثرت جرائمهم ، وحاول كعب بن زهير أن يتشفع بأبي بكر الصديق فأبى عليه ، فجاء كعب بن زهير وأنشد بين يدي النبي قصيدة مشهورة جاء فيها ما يأتي :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذا ظهرت إلا أغن غضيض الطرف مكحول .
وقال كل صديق كنت آمله لا ألفينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبالكمو فكل ما قدر الرحمان مأمول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
وهنا خلع النبي صلى الله عليه وسلم البردة التي كان يلبسها ، وأعطاها هدية لكعب بن زهير كدليل على استجادته لشعره .
لقد كان صلى الله عليه وسلم في الذروة العليا في الفصاحة والبلاغة ، وتذوق الشعر ، وكان يضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ، ليلقى عليه الشعر ، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم : " اهجهم وروح القدس معك "
وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار
فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم : " إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي "
وأخرج ابن سعد ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا : " كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء " .
والرواية : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا .
قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله ، ما علمك الشعر وما ينبغي لك .
لقد أراد الله أن يكون النبي أميّا لتكون الحجة أتمّ ، والبرهان على المشركين أقوم ، كذلك منعه قول الشعر ، حتى لا يكون لهم حجة ، أن يدَّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها ، والأباطيل التي ينمّقها وليس بوحي من عند ربه .
وقد سبق أن تكلمنا باستفاضة في هذا الموضوع عند تفسير قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون مالا يفعلون* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 224-227 ]
فمن أراد المزيد في هذا الموضوع فليرجع إلى تفسيري لهذه الآيات .
قوله تعالى : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " فيه أربع مسائل :
الأولى- أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم ، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر ، وإن القرآن شعر ، بقوله : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد ببت قديم متمثلا كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم . من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك من لم تزودْه بالأخبار
وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول :
ألم ترياني كلما جئتُ طارقا *** وجدت بها وإن لم تطيَّب طيبا
أتجعل نهبي ونهب العب *** يد بين الأقرع وعيينة
وقد كان عليه السلام ربما أنشد البيت المستقيم في النادر . روي أنه أنشد بيت عبد الله بن رواحة :
ببيت يجافي جَنْبَهُ عن فراشه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ
وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي عليه السلام :
كفى بالإسلام والشيبِ للمرء ناهيا
فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إنما قال الشاعر :
هريرةَ ودِّعْ إن تجهزت غاديا *** كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيَا
فقال أبو بكر أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله عز وجل : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " . وعن الخليل بن أحمد : كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى له .
الثانية- إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه ما يدخل في وزن ، كقول يوم حنين وغيره :
هل أنت إلا إصبعٌ دَميتِ *** وفي سبيل الله ما لَقِيتِ
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن ، وفي كل كلام ، وليس ذلك شعرا ولا في معناه ؛ كقوله تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " [ آل عمران : 92 ] ، وقوله : " نصر من الله وفتح قريب " [ الصف : 13 ] ، وقوله : " وجفان كالجواب وقدور راسيات " [ سبأ : 13 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن ، على أن أبا الحسن الأخفش قال في قوله : ( أنا النبي لا كذب ) ليس بشعر . وقال الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا . وروي عنه أنه من منهوك الرجز . وقد قيل : لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله : ( لا كذب ) ، ومن قوله : ( عبد المطلب ) . ولم يعلم كيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن العربي : والأظهر من حال أنه قال : ( لا كذب ) الباء مرفوعة ، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة . وقال النحاس قال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب ، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا ؛ لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمها أو نونها ، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر . وقال بعضهم : ليس هذا الوزن من الشعر . وهذا مكابرة العيان ؛ لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره . وأما قوله : ( هل أنت إلا إصبع دميت ) فقيل إنه من بحر السريع ، وذلك لا بكون إلا إذا كسرت التاء من دميت ، فإن سكن لا يكون شعرا بحال ؛ لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول ، ولا مدخل لفعول في بحر السريع . ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع . والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر ، ويسقط الاعتراض ، ولا يلزم منه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بالشعر ولا شاعر - أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره ، لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر ، ولا يسمى شاعرا باتفاق العلماء ، كما أن من خاط خيطا لا يكون خياطا . قال أبو إسحاق الزجاج : معنى : " وما علمناه الشعر " وما علمناه أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا ، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر . قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في هذا . وقد قيل : إنما خبر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا ، وهذا ظاهر الكلام . وقيل فيه قول بين ، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة ، وذلك أنهم قالوا : كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر . وهذا قول بين . قالوا : وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه ، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله ، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق . ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم ، فقال بعضهم : نقول إنه شاعر . فقال أهل الفطنة منهم : والله لتكذبنكم العرب ، فإنهم يعرفون أصناف الشعر ، فوالله ما يشبه شيئا منها ، وما قوله بشعر . وقال أنيس أخو أبي ذر : لقد وضعت قوله على أقراء الشعر{[13233]} فلم يلتئم أنه شعر . أخرجه مسلم . وكان أنيس من أشعر العرب . وكذلك عتبة بن أبي ربيعة لما كلمه : والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، على ما يأتي بيانه من خبره في سورة [ فصلت ] إن شاء الله تعالى . وكذلك قال غيرهما من فصحاء العرب العرباء ، واللسن البلغاء . ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا ، وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه ، فقد يقول القائل : حدثنا شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي ، ولا يعد هذا شعرا . وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء : اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى .
الثالثة- روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال : لا تكثرن منه ، فمن عيبه أن الله يقول : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " قال : ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن أجمع الشعراء قِبلك ، وسلهم عن الشعر ، وهل بقي معهم معرفة ؛ وأحضر لبيدا ذلك ، قال : فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله . وسأل لبيدا فقال : ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول : " الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه " [ البقرة : 1 ] قال ابن العربي : هذه الآية ليست من عيب الشعر ، كما لم يكن قوله : " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " [ العنكبوت : 48 ] من عيب الكتابة ، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط ، كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر . روي أن المأمون قال لأبي علي المنقري : بلغني أنك أمي ، وأنك لا تقيم الشعر ، وأنك تلحن . فقال : يا أمير المؤمنين ، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء ، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقيم الشعر . فقال له : سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل ، يا جاهل ! إن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة ، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة ، وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لنفي الظنة عنه ، لا لعيب في الشعر والكتابة .
الرابعة- " وما ينبغي له " أي وما ينبغي له أن يقول . وجعل الله جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه ، فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر . ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول ؛ لأن ما وافق وزنه وزن الشعر ، ولم يقصد به إلى الشعر ليس بشعر ؛ ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا ، على ما تقدم بيانه . وقال الزجاج : معنى " وما ينبغي له " أي ما يتسهل له قول الشعر إلا الإنشاء . " إن هو " أي هذا الذي يتلوه عليكم " ذكر وقرآن مبين "
ولما أتم سبحانه الدليل على آية { لقد حق القول على أكثرهم } بأن التكذيب بالأصلين التوحيد والحشر ، وبينهما غاية البيان ، رجع إلى تثبيت الأصل الثالث وهو أمر الرسول والتنزيل ، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلم يزد فيه غريزة ، ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء ، أما المعاني الحسية فمطلقاً ، وأما المعنوية فلا تزيد إلا بالتجربة والكسب ، ولذلك قالوا :
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً *** فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكان من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام تظهر عليهم غرائز العلوم والحكم وغير ذلك مما يجريه الله على أيديهم ، ولا ينقص شيء من قواهم بل تزاد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي غير مكترث ، وأن الصحابة رضي الله عنهم ليجهدون أنفسهم ، فيكون جهدهم أن يدركوا مشية الهوينا ، وأنه صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل ، وكان واثقاً من نفسه بأنه يصرع من صارعه ، فلم يملكه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، وعاد إلى ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك لا يستمسك في يده حتى شرع يقول : إن هذا لعجب يا محمد ! أتصرعني ، وحتى أنه دار على نسائه - وهن تسع - كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس ، ولم يحك عن نبي من الأنبياء ممن عاش منهم ألفاً ومن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه ، بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
" أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صكه ففقأ عينه فقال لربه : أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، قال : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة ، قال : أي رب ! ثم ماذا ؟ قال : الموت ، قال فالآن " وفي آخر التوراة : وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب ، فدفن حذاء بيت فاغورا ، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا ، وكان موسى يوم قضي ابن مائة وعشرين سنة ، لم يضعف بصره ولم يشخ جدا ، لما كان الأمر كذلك ، وكان " الله " سبحانه قد جعل إ رسالهم سني الوقوف في الغرائز والضعف في القوى خرقاً للعادة إكراماً لهم وتنبيهاً للناس على صدقهم ، علم من العطف على غير معطوف عليه ظاهر ومن الإتيان بضميره صلى الله عليه وسلم من غير تقدم ذكر له أن التقدير : لكن نبينا صلى الله عليه وسلم عمرناه وما نكسناه بل منحناه غرائز من الفضائل عجز عنها الأولون والآخرون ، فأتى بقرآن أعجز الإنس والجن ، وعلوم وبركات فاتت القوى ، ومعلوم قطعاً أن الذي أتى به ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وعدواناً ، وكذباً على جنابه وافتراء وتجاوزاً في البهت وطغياناً ، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعاً ولم يقل بيت شعر مع ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة ، وبه من المكاثرة ، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعاً أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها : { وما علمناه } أي نحن { الشعر } فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها ، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات
{ وما أنا من المتكلفين }[ ص : 86 ] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإتيان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى ، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه ، وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني ، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة ، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة ، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا ، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام ، فلا تكلف عنده أصلاً ، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم ، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله :
متى ما يرى الناس الغني وجاره *** فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى *** ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً *** فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غنى مذمم *** وصعلوك قوم مات وهو حميد
والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز ، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه ، بدليل أنا كثيراً ما رأينا من فاته الغنى شاباً جلداً وناله شيخاً ضعيفاً ، وما رأينا من أخطأته المروءة شاباً ونالها شيخاً ، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة ، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة ، والمروءة هي الإنسانية ، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة ، وهذا هو السيادة ، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنياً كان أو فقيراً ، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال ، فلله درهم ! ما كان أحكمهم وأدراهم بالدقائق وأعلمهم ، ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم ، فملأت معارفه الأكوان ، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان .
ولما كان الشعر مع ما بني عليه من التكلف الذي هو بعيد جداً عن سجايا الأنبياء فكيف بأشرفهم مما يكتسب به مدحاً وهجواً ، فيكون أكثره كذباً - إلى غير ذلك من معايبه ، قال سبحانه وتعالى : { وما ينبغي له } أي وما يصح ولا ينطلب ولا يتأتى أصلاً ، لأن منصبه أجل ، وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً ، أو أن يتقيد بما قد يجر إلى نقيصة في المعنى ، وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة .
ولما تمت الدلالة على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتضمنت أن الشعر - وهو تعمد صوغ الكلام على وزن معلوم وقافية ملتزمة - نقيصة لما ذكر ولما يلزمه التقيد بالوزن والروي والقافية من التقديم والتأخير والتحويم على المعاني من غير إفصاح ولا تبيين فيصير عسر الفهم مستعصي البيان ، ونفى عنه صلى الله عليه وسلم تلك النقيصة ، فتضمن ذلك تنزيه ما أنزل عليه عنها - كما أشارت إليه نون العظمة في " علمنا " - أثبت له ما ينبغي له فقال كالتعليل لما قبله : { إن } أي ما { هو } أي هذا الذي أتاكم به { إلا ذكر } أي شرف وموعظة { وقرآن } أي جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات ، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين مع الفصل بين الملبسات { مبين * } أي ظاهر في ذلك مطلق لكل ما فيه لمن يرومه حق رومه ، ويسومه بأغلى سومه ، بعد أن يشترط في مطلق فهمه ومجرد اللذة به الذكي والغبي والحديد والبليد ، وليس هو بشعر متكلف يتقدم فيه - بحكم التزام الوزن والروي والقافية - الشيء عن حاق موضعه تارة ويتأخر أخرى ، ويبدل بما لا يساويه فتنقص معانيه وتنعقد فتشكل فلا يفهمه إلا ذاك وذاك مع أنه من همزات الشياطين فيا بعد ما بينهما ، ويبين هذا المعنى غاية البيان آخر " ص " { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } { إن هو إلا ذكر للعالمين } أي كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما هو ذكر للأذكياء جداً .