تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

63

المفردات :

نختم على أفواههم : نمنعها من الكلام .

وتكلمنا أيديهم : كلام دلالة أو نطق .

التفسير :

65 { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .

في ذلك اليوم ينكر الكفار كفرهم وجرائمهم التي فعلوها في الدنيا ، فيختم الله على أفواههم فلا تنطق ، ويأمر الجوارح أن تشهد عليهم بما اجترحوه من المعاصي ، فتنطق اليد وترشد إلى المعاصي التي ارتكبتها ، وتنطق الرِّجل وتشهد بالمعاصي التي اجترحتها وفعلتها .

قال المفسرون :

وشهادة الأيدي والأرجل عليهم دلالتها على أفعالها ، وظهور آثار معاصيها عليها .

وقيل : ذلك على الحقيقة ، بأن ينطقها الله فتتكلَّم وتشهد ، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الصحيحة .

قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [ النور : 24 ، 25 ] .

وقال تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ فصلت : 19 21 ] .

وفي كتب السنة النبوية ما يفيد أن الله يضع كَنَفَهُ على المؤمن ويذكّره بذنوبه التي فعلها في الدنيا ، فيعترف بها لربّه ، ولا ينكر منها شيئا ، فيقول له الله : لقد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ، وأما الكافر فينكر أنه فعل شيئا من الذنوب ، فتنطق جوارحه عليه ، وتفضحه جوارحه على رؤوس الأشهاد .

روى ابن أبي حاتم ، والإمام مسلم ، والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " أتدرون مم أضحك ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : ربّ ألم تجردني من الظلم ؟ فيقول : بلى فيقول : لا أجيز عليّ إلا شاهدا من نفسي ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهودا ، فيختم الله على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بعمله ، ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول : بُعْدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل " 26

وخلاصة معنى الآية :

اليوم نغطِّي على أفواههم فلا تنطق ، وتكلمنا أيديهم ، وتنطق أرجلهم شاهدة عليهم بما كانوا يعملون . وجاء في حاشية الجمل على الجلالين ما يأتي :

قال الكرخي : أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه ، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا ، أو قهرا ، والإقرار مع الإجبار غير مقبول ، فقال : { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم . . . } أي باختيارها ، بعد إقرار الله لها على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم . ا ه .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

قوله تعالى : " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : ( هل تدرون مم أضحك ؟ - قلنا : الله ورسوله أعلم قال : - من مخاطبة العبد ربه ، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال : يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال : فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ) خرجه أيضا من حديث أبي هريرة . وفيه : ( ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ومتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه{[13231]} انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه ) . وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال : وأشار بيده إلى الشام فقال : ( من ها هنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفِدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ) في رواية أخرى : ( فخذه وكفه ) الفدام مصفاة الكوز والإبريق . قاله الليث . قال أبو عبيد : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق . ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه : أحدها : لأنهم قالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام : 23 ] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم . قاله أبو موسى الأشعري . الثاني : ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم . قاله ابن زياد . الثالث : لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز ، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز . الرابع : ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه . فإن قيل : لم قال " وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم " فجعل ما كان من اليد كلاما ، وما كان من الرجل شهادة ؟ قيل : إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل ؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول ، وعما صدر من الأرجل بالشهادة . وقد روي عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى ) ذكره الماوردي والمهدوي . وقال أبو موسى الأشعري : إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى . ذكره المهدوي أيضا . قال الماوردي : فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء ؛ لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها . قال : وتقدمت اليسرى ؛ لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها ؛ فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها .

قلت : أو بالعكس لغلبة الشهوة ، أو كلاهما معا والكف ، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة . والله أعلم .


[13231]:الزيادة من صحيح مسلم.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ نَخۡتِمُ عَلَىٰٓ أَفۡوَٰهِهِمۡ وَتُكَلِّمُنَآ أَيۡدِيهِمۡ وَتَشۡهَدُ أَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (65)

ولما كان كأنه قيل : هل يحكم فيهم بعلمه أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة ، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا ، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة لأنه أليق بالتهويل : { اليوم نختم } أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة ، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال : { على أفواههم } أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا ، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب ، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال : { وتكلمنا أيديهم } أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة { وتشهد أرجلهم } أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار { بما كانوا } أي في الدنيا بجبلاتهم { يكسبون * } فالآية من الاحتباك : أثبت الكلام للأيدي أولاً لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً ، وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً ، وبقرينة أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : " يقول العبد : يا رب ! ألم تجرني من الظلم ، قال : فيقول : بلى ، فيقول : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل " والظاهر أن السر في الختم على فيه منعه من أن يلغط حال شهادتها عليه لئلا يسمع قولها ، كما هو دأب أهل العناد عند الخصام .