الذين يجتنبون : ( الذين ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون . . . ، والجملة بيان لمن اهتدى .
كبائر الإثم : ما عظم من الذنوب ، وما كبر عقابه .
الفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما فحش من الكبائر ، يقال : فحش يفحش فحشا ، أي : قبح أشد القبح ، مثل : الزنا والسرقة والقتل .
إلا اللمم : إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره ، ومنه : لمة الشعر ، لأنها دون الوفرة .
فلا تزكوا أنفسكم : فلا تصفوها بالطهارة .
أجنّة : جمع جنين ، وهو الولد ما دام في بطن أمه .
32- { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .
من سعة رحمة الله وفضله أن يمدح عباده المتقين ، وأن يصفهم باجتناب كبائر الذنوب ، مثل : السحر واليمين الغموس ، والتولّي يوم الزحف ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، وهم يبتعدون عن الفواحش – جمع فاحشة – وهي ما تناهى قبحها عقلا وشرعا ، كالزنا والسرقة والقتل .
وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله ، كالقبلة والغمزة والنظرة .
وقال ابن كثير : اللمم : صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
وعن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " xii . رواه الشيخان ، وأحمد .
وقال عبد الرحمن بن نافع : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم . فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل وهو الزنا .
وروى ابن جرير ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم ، قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .
إن تغفر اللهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك ما ألمّا ؟
{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ . . . }
قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعودxiii . 1ه .
لقد فتح الله تعالى أبواب التوبة أمام التائبين ، وحث عباده على ذلك ، ودعاهم إلى التوبة في كل وقت ، وبذلك يتخلص الإنسان من الإحباط والإثم ، والشعور بالدّونية ، حيث يتطهر ويصلي ركعتين بنية التوبة ، ويسأل الله تعالى أن يغفر له ، وأن يتوب عليه ، فيجيبه الغفور الرحيم .
قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . } ( الزمر : 53 )
وقال سبحانه وتعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } . ( طه : 82 )
وهذه الآية الكريمة تتحدث عن فضل الله ورحمته ، فتقول : إن ربك واسع المغفرة . . . فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها .
قال البيضاوي : ولعله عقّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين ، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ . . . }
حيث خلق أبانا آدم من الأرض ، فقد خلقه من التراب ، واختلط التراب بالماء فصار طينا ، وترك الطين فترة حتى تغيّر فأصبح حمأ مسنونا ، وبعد فترة أصبح كالفخار ، فهي مراحل مرّ بها الإنسان .
الإنسان مكون من النطفة ، وهي خلاصة الدم ، والدم خلاصة الغذاء ، والغذاء يأتي من الأرض .
{ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . . }
أي : وهو أعلم بكم وقت كونكم في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة بعضها يلي بعضا ، وهو سبحانه عليم بما في الأرحام ، وما ينتظر الجنين من رزق ، وسعادة أو شقاوة .
والإله العليم ينبغي أن نعتمد عليه ، وأن نتذكر نعماءه ، وأنه سبحانه يرى ويطّلع ، ويحاسب ويجازي .
{ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .
لا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب ، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى ، فإن النفس خسيسة ، إذا مُدحت اغترّت وتكبّرت .
أو الزموا الإخلاص وصدق المراقبة لله ، والخوف من غضب الجبار ، ومن سوء الخاتمة ، فإن الله مطلع على عبيده ، وهو عليم بمن أخلص العمل واتقى من ربّه في السر والعلن .
والآية دعوة إلى التوبة ، والمسارعة إلى رحمة الله وفضله ، وفيها دعوة إلى الإخلاص ، مع الخوف من الله ، والرجاء في رحمته ، واليقين بسعة علمه ومراقبته ، واطلاعه على الظاهر والباطن سبحانه وتعالى .
نهى القرآن عن تزكية المرء نفسه وعن مدحها والثناء عليها ، أو ادعاء العصمة من الصغائر ، أو الطهارة من المعاصي ، لأن العاقبة مجهولة ، وعلينا أن نحمد الله على الطاعة ، وأن نحذر المعصية ، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي ، وعلينا ألا نمدح الآخرين في وجوههم .
روى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، قطعت عنق صاحبك – مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ، ولا أزكّي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " . xiv
ثم ذكر وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } أي : يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات ، التي يكون تركها من كبائر الذنوب ، ويتركون المحرمات الكبار ، كالزنا ، وشرب الخمر ، وأكل الربا ، والقتل ، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة ، { إِلَّا اللَّمَمَ } وهي الذنوب الصغار ، التي لا يصر صاحبها عليها ، أو التي يلم بها العبد ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء ، ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر " [ وقوله : ] { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى بعض{[902]} المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية ، والضعف موجود مشاهد منكم حين أنشاكم{[903]} الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم ، وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم ، خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب التي يتمقت بها عند مولاه ، ثم تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين{[904]} أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح{[905]} .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من بر وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا ] .
ثم وصفهم فقال قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية ، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك ملك كريم . وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : إلا اللمم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما " . وأصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ، ولا إقامة . وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن أسلم ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمود بن غيلان ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه ( باللمم ) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أويكذبه " . ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد : " والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطأ " .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو : الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب يعني خطر . وقال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب . { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام ها هنا ، ثم قال : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يعني خلق أباكم آدم من التراب ، { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين ، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن ، { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرئوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها . قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { هو أعلم بمن اتقى } أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
{ كبائر الإثم } ذكرنا الكبائر في النساء .
{ إلا اللمم } فيه أربعة أقوال :
الأول : أنه صغائر الذنوب فالاستثناء على هذا منقطع .
الثاني : أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفلتة والسقطة دون دوام عليها .
الثالث : أنه ما ألموا به في الجاهلية من الشرك والمعاصي . الرابع : أنه الهم بالذنوب وحديث النفس به دون أن يفعل .
{ فلا تزكوا أنفسكم } أي : لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون نهى عن أن يزكي بعض الناس بعضا وهذا بعيد لأنه تجوز التزكية في الشهادة وغيرها .
ولما وعد الذين وقع منهم الإحسان ، وصفهم فقال : { الذين يجتنبون } أي يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا { كبائر الإثم } أي ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد ، وعطف على { كبائر الإثم } قوله : { والفواحش } والفاحشة من الكبائر ما يكرهه الطبع وينكره العقل ويستخسّه .
ولما أفهم هذا التقييد أن من خالط ما دون فما دون كان مغفوراً له ، صرح به فقال : { إلا } أي لكن { اللمم } معفو ، فمن خالطه لا يخرج عن عداد من أحسن ، فهو استثناء منقطع ، ولعله وضع فيه { إلا } موضع { لكن } إشارة إلى{[61730]} الصغير يمكن أن يكون كبيراً باستهانته مثلاً كما قال تعالى
{ وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم }{[61731]} واللمم هو صغار الذنوب ، والمراد هنا ما يحصل منها في الأحيان كأنه وقع في صاحبه فلتة بغير اختيار منه ، لا ما يتخذ عادة أو يكثر حتى يصير كالعادة ، قال الرازي في اللوامع : وأصله مقاربة الذنب ثم الامتناع منه قبل الفعل ، قال ذو النون : ذكر الفاحشة من العارف كفعلها من غيره - انتهى . يقال : وألم بالمكان - إذا قل لبثه فيه ، وقال البغوي{[61732]} : قال السدي : قال أبو صالح أنه سئل عن اللمم فقال : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، قال : فذكرت ذلك{[61733]} لابن عباس رضي الله عنهما فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، ثم قال البغوي : فأصل اللمم والإلمام ما{[61734]} يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة{[61735]} ولا إقامة عليه{[61736]} - انتهى - وعلى هذا يصح أن يكون الاستثناء متصلاً .
ولما كان الملوك لا يغفرون لمن تكررت ذنوبه إليهم وإن صغرت ، فكان السامع يستعظم أن يغفر ملك الملوك سبحانه مثل هذا ، علل ذلك بقوله : { إن ربك } أي المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك { واسع المغفرة } فهو يغفر الصغائر حقاً أوجبه على نفسه ويغفر الكبائر إن شاء بخلاف غيره من الملوك فإنه لو أراد ذلك ما أمكنه اتباعه ، ولو جاهد حتى تمكن من ذلك في وقت فسدت مملكته فأدى ذلك إلى زوال الملك من يده أو اختلاله .
ولما وصف الذين أحسنوا فكان ربما وقع في وهم أنه لا يعلمهم سبحانه إلا بأفعالهم ، وربما قطع من عمل بمضمون الآية أنه ممن أحسن ، قال نافياً لذلك : { هو أعلم بكم } أي بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم { إذ } أي حين { أنشاكم } ابتداء { من الأرض } التي طبعها طبع الموت : البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم تقوية قريبة ولا بعيدة أصلاً يميز الثواب الذي يصلح لتكونكم منه والذي لا يصلح { وإذ } أي حين { أنتم أجنة } أي مستورون . ولما كان البشر قد يكون في بطن الأرض وإن كان الجنين معروفاً للطفل في البطن ، حقق معناه بقوله : { في بطون أمهاتكم } بعد أن مزج بذلك التراب البارد اليابس الماء والهواء ، فنشأت الحرارة والرطوبة ، فكانت هذه الأربعة الأخلاط الزكية والدنية ، ولكن لا علم لكم أصلاً ، فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشر وإن عملتم مدة من العمر بخلاف ذلك فإنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك وأنتم لا تعلمون إلا ما يكون في أنفسكم حال كونه أنكم لا تحيطون به إذ ذاك علماً .
ولما كان من عادة من سلم من الذنوب أن يفتخر على من قارفها لما بني الإنسان عليه من محبة الفخر لما جبل عليه من النقصان ، وكان حاله قد يتبدل فيسبق عليه الكتاب فيشقى ، سبب عن ذلك قوله : { فلا تزكوا } أي تمدحوا بالزكاة وهو البركة والطهارة عن الدناءة { أنفسكم } أي حقيقة بان يثني على نفسه فإن تزكيته لنفسه من علامات كونه محجوباً عن الله - قاله القشيري - أو مجازاً بأن يثني على غيره من إخوانه فإنه كثيراً ما يثني بشيء فيظهر خلافه ، وربما حصل له الأذى بسببه " وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع " الحديث ، ولذلك علل بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن جميع الخلق { بمن اتقى } أي جاهد نفسه حتى حصل فيه تقوى ، فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين ، فكيف بمن صارت له التقوى وصفاً ثابتاً .