سورة الإسراء في جملتها تدور حول الرسول والرسالة فتبدأ بالحديث عن الإسراء بدايته ونهايته وغايته وهذا هو العنوان الذي تندرج تحته موضوعات السورة وكلها موضوعات لها أوجه مناسبة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد تحدثت عن بني إسرائيل بمناسبة الحديث عن الإسراء إلى بيت المقدس ، وكان اليهود يعيرون النبي بأنه لم يذهب إلى بيت المقدس مع أن الرسل السابقين قد ذهبت إليه وولدت حوله وهبط عليهم الوحي في معبده ويعيرون بأنه ليس من سلسلة الأنبياء ، فقد اختص الله إبراهيم بأن جعله أبا للأنبياء والمرسلين وجعل الرسالة كلها في عقبه بيد أن جميع المرسلين كانوا من نسل ولده إسحاق ، ثم يعقوب الملقب بإسرائيل وقد أنجب يعقوب اثني عشر سبطا لقبوا بالأسباط{[1]} ، وكان من نسلهم جميع أنبياء بني إسرائيل .
أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكان وحده من نسل إسماعيل بن إبراهيم ، وقد جعل الله الإسراء إلى بيت المقدس ؛ ليكون بمثابة تدشين لنبوته ثم جعله يصلي إماما بالأنبياء ؛ ليكون هذا اعترافا بأنه أهل الرسالة ، وتشير بعض الآيات في القرآن إلى هذا المعنى{[2]} .
وصلاة النبي بالأنبياء تشير إلى وحدة الرسالات والنبوات وأنها جميعا من عند الله وأن الأنبياء والمرسلين أرسلوا من أجل هداية الناس ودعوتهم إلى التوحيد وإرشادهم إلى الفضائل وتحذيرهم من الرذائل ، فالغاية من الرسالة واحدة والهدف واحد وإن اختلفت الوسائل باختلاف الشعوب وطبائعها ، فمن الأنبياء من حارب رذائل معينة انتشرت بين قومه كتطفيف الكيل الذي جاء به شعيب ، والمثلية الجنسية التي حاربها لوط ، ولكن الأنبياء في الأساس العام دعاة إلى توحيد الله وهداة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق ، ولذلك تلتقي الديانات على فكرة التوحيد وحسن السلوك ، وفي سورة الأعراف نجد آيات متلاحقة تتحدث عن رسالة كل نبي وتتشابه جميعها في أنها تبدأ أولا بالدعوة إلى توحيد الله . قال تعالى : { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قومي اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . } ( الأعراف : 59 ) .
{ و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . } ( الأعراف : 65 )
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . } ( الأعراف 73 )
فالرسالات متحدة في الأساس العام وهو التوحيد .
ومتخصصة في الفروع التي تعالجها والمشاكل التي تقدم حلولها وبعبارة أخرى : الغاية واحدة والوسيلة مختلفة .
وقد ذكر السيد رشيد رضا في تفسير المنار{[3]} : أن تعدد الرسل يشبه دولة أو جمهورية لها رئيس يحكمها بقانون عام ، وللرئيس نواب عنه يحكمون المحافظات فكل محافظ يتفق مع الآخر في الأساس العام للحكم ويختلف عنه باختلاف طبيعة الأقاليم فلمحافظة السويس أو البحر الأحمر أو الوادي الجديد مثلا تشريعات خاصة بها ، ولكنها تلتقي مع بقية المحافظات في احترام الأساس العام للحكم وتنفيذ دستور الدولة وطاعة رئيسها .
وكذلك الرسل ، الإله الذي أرسلهم إله واحد لا شريك له والدعوة التي أرسلوا بها دعوة واحدة في روحها وهدفها . ولكن الوسيلة لتهذيب السلوك تختلف من نبي إلى آخر ومن شعب لآخر .
ونجد نصوص القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وتأيده . فالقرآن يقول : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . . . }
ولذلك نجد المسلم يؤمن بالرسالات كلها وبالرسل والكتب الصحيحة التي أنزلها الله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } . ( البقرة : 136 ) .
وفي الصحيحين{[4]} يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فجعل الناس يقولون لو وضعت هذه اللبنة فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل ) .
ويروي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الأنبياء أخوات لعلات{[5]} أمهاتهم شتى ودينهم واحد ){[6]} .
وأبناء العلات هم أبناء الضرائر يكون أبوهم رجلا واحدا وأمهاتهم متعددات ، فكذلك الرسل ربهم الذي أرسلهم إله واحد ورسالاتهم متعددة بتعدد بلادهم .
وقريب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .
وفي هذه الوحدة رد على اليهود الذين ادعوا أنهم شعب الله المختار وأن الرسالة لا تكون إلا فيهم وأنهم أبناء الله وأم من عداهم لا يصح أن يكون رسولا .
فالله هو الذي خلق الخلق وهو يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، والرسالة منة إلهية يعطيها الله من يشاء من عباده .
بل إن الرسل أنفسهم فضل الله بعضهم على بعض فجعل منهم أولي العزم ، الذين تحملوا البلاء أكثر من غيرهم .
قال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } . ( البقرة 253 ) .
وقال سبحانه : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } . ( الأحقاف : 35 ) .
وأولوا العزم من الرسل خمسة هم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد .
وسموا بأولي العزم لتحملهم من البلاء والجهاد والكفاح أكثر مما تحمله سواهم ، ومن قواعد الإيمان أن تؤمن بالله ربا وخالقا ، وأن تؤمن بأن الله أرسل رسلا لهداية الناس : { رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ( النساء : 165 ) .
وهؤلاء الرسل كثرة كثيرة في تاريخ البشرية الطويل ، وهم علامات مضيئة وشارات ترشد البشرية ، ولا يعلم عددهم إلا الله ، قال تعالى : { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . . ( غافر : 78 ) .
وقد ورد ذكر كثير من الرسل في القرآن الكريم ، قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم . ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين } . ( الأنعام : 83-86 ) .
كان موسى رسول بني إسماعيل وصاحب الثورات والألواح وصاحب الشريعة التي أرسل على أساسها عيسى ، فلم يأتي عيسى بشرع جديد ، بل كان في دعوته تابعا لتعاليم الثورات وغاية فكرته أن صاح صيحات متتابعة يدعوهم فيها إلى صدق الإيمان والإخلاص ويبعدهم عن حب المادة ويسموا بهم إلى الروحانية الخالصة .
ولذلك يقول عيسى : ما جئت لأنقض الناموس بل لأجدده ، وقال القرآن على لسان الجن : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } . ( الأحقاف : 30 ) .
وفي البخاري يقول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى{[7]} .
فموسى صاحب دين ينتظم القوانين المدنية والشرائع الدينية ، أما عيسى فجاء بفكرة إصلاحية روحية فقط . وقد عادت الكنيسة في الغرب إلى هذه الحدود الدينية وحدها . أما شريعة اليهود فهي شريعة متكاملة ولا ينافسها إلا الإسلام لأنه هو الدين الوحيد الذي يناظر اليهودية في اشتماله على منهج ونظام مدني وديني . وقد استقبل الأنبياء والمرسلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ورحبوا به وقال له كل نبي : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح وهذا دليل على أن الأنبياء والمرسلين إخوة في المهمة التي كلفوا بها والدعوة التي وقفوا حياتهم من أجلها .
استقبل النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى آدم ، وفي الثانية يحيى وعيسى ، وفي الثالثة يوسف ، وفي الرابعة إدريس ، وفي الخامسة هارون ، وفي السادسة موسى ، وفي السابعة إبراهيم ، وقد بكى موسى عند وداع النبي صلى الله عليه وسلم له ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا موسى ؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث من بعدي سيدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي . وهو بكاء الغبطة لا بكاء الحسد ، ولعل موسى قد تذكر أنه طلب رؤية الله فلم يجب إلى ذلك قال تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين . ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني . . . } ( الأعراف : 142 ، 143 ) .
ثم إن موسى رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء ، يأخذ ليلا ويركب البراق وجبريل في الركاب ويصلي إماما بالأنبياء ويصعد في السماوات العلا ويرى من فضل الله ما يرى وتحوطه عناية الله وفضل الله ويرى الجنة ونعيمها ويرى الملأ الأعلى يخصونه بالسلام والتحية . وتلك كلها خصائص اختص الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام .
وحين فرض الله على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة رجع إلى الهبوط ، فمر بموسى في السماء السادسة ، فقال له : ماذا أعطاك ربك ؟ قال : خمسين صلاة ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك ، فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني جاهدت بني إسرائيل قبلك . وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ، فسأله التخفيف ، فحط عنه عشر صلوات ، فلما رجع إلى موسى ، قال له : ارع إلى ربك فاسأله التخفيف ، وتكررت توصية موسى للنبي صلى الله عليه وسلم مرارا حتى أصبحت خمس صلوات ، ثم قال الله له : { يا محمد ، هي خمس في العمل ، وخمسون في الثواب ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا يبدل القول لدي ، وما أنا بظلام للعبيد } . وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى فقال له : ماذا أعطاك ربك ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سألت ربي حتى استحييت ولكني أرضي وأسلم .
ومن هذا الحديث نعرف ما بين الأنبياء من صلات ووشائج ونلمس رحمة موسى بالأمة المحمدية .
وقد نقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبرته في جهاد بني إسرائيل . ولذلك قال عليه الصلاة والسلم : ( كان موسى خيرهم لي حين رجعت إليه ) . وفي رواية : ( فمررت بموسى ، ونعم الصاحب كان لكم ) .
وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم الأخير لمقدسات الرسل قبله واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا ، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وتربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وأسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبييين عليه الصلاة والسلام .
هي سورة مكية نزلت في السنة الحادية عشرة للبعثة قبل الهجرة بسنة . وتسمى سورة الإسراء نظرا لذكر الإسراء في صدرها ، كما تسمى سورة بني إسرائيل للحديث عنهم وعن إفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم على هذا الفساد .
وعدد آياتها 111 آية وهي مكية اتفاقا إلا الآيات : 26 ، 32 ، 57 ، ومن آية 73 ، إلى 80 فمدنية ، وقد نزلت بعد القصص ، فهي من أواخر ما نزل بمكة وقد تميزت آياتها بالطول النسبي وبسط الفكرة والدعوة إلى الآداب ومكارم الأخلاق على حين تجد الآيات المكية التي نزلت في أوائل البعثة تتميز بقصر الفواصل ، ومراعاة السجع ، والدعوة إلى التوحيد ، وسوق الأدلة على الإيمان بالله ، والآيات المدنية تتميز بالطول ، وبيان أحكام التشريع ، ونظام العبادات ، والمعاملات ، فسورة الإسراء اشتملت على خصائص السورة المكية ، ومن ناحية أخرى ظهر فيها صفات من خصائص السور المدنية ؛ لأنها من أواخر العهد المكي فهي ممهدة للعهد المدني ، حيث استقرت الدعوة في المدينة ونزل القرآن يرسم سياسة المسلمين الداخلية والخارجية ويبين للمؤمنين نظام الحرب والسلم وأدب المعاملة وفن الحديث وطريقة الدعوة ومنهاج الحياة . وقد ذكر العلماء أن من واجبات المفسر أن يعرف مكي القرآن ومدنيه وما يشبه المدني وهو مكي وما يشبه المكي وهو مدني{[8]} ، وأن يعرف تاريخ النزول وأسباب النزول وما نزل من القرآن أولا وما نزل تاليا وما نزل مفردا وما نزل مشيعا بالملائكة . . فإن هذه المعرفة تعطينا ضوءا كاشفا يوضح أهداف السورة ومقصد الآيات وأسرار التشريع ، فهي دراسة للجو المحيط بالنص ولا غنى لمن أراد دراسة نص من النصوص عن معرفة قائله والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها والعوامل والظروف التي أحاطت بهذا النص .
ونحن حين ندرس القرآن نحيط بدراسة مماثلة للنص وما حوله ، ثم نحتاج إلى صفة أخرى هي صدق النية وعمق النظرة وإخلاص القلب وسلامة الفطرة حتى نستكشف هدى القرآن وسمو تعاليمه ؛ لأنها تظهر واضحة أمام المؤمنين ، وتخفى عن عيون الجاحدين قال تعالى : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } . ( الإسراء : 45 ، 46 ) .
بدأت سورة الإسراء بقوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } .
وهذا هو مطلع السورة أو عنوانها الذي يحشد موضوعات السورة ، إن السورة في مجملها تتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القرآن الذي نزل عليه وموقف المشركين من هذا القرآن . وفي خلال هذا الحديث تستطرد إلى ذكر بني إسرائيل والحديث عن ماضيهم وإفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم كأنها تتوعد كل مكذب ومفسد بالعقاب العادل وفي هذا تهديد لكفار مكة ، ولكل خارج على نطاق الإيمان وشريعة العدل والنظام الإلهي ( انظر الآيات : 1-22 ) .
كما تحدثت السورة عن قضية التوحيد لتقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك ، فأمرت بالإحسان إلى الوالدين ، وبإيتاء ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، ونهت عن التبذير والقتل والزنا وتطفيف الكيل وأكل مال اليتيم ، والكبر والبطر . ( الآيات : 23_39 ) .
وقد أمرت المسلمين بجملة من الآداب في أسلوب رائع حكيم يدعوا الناس إلى التمسك بها ويؤيد أن القرآن كتاب تربية أخلاقية وسلوكية . وأن هذه التربية هي التي صاغت المجتمع الإسلامي المحمدي صياغة جديدة مهذبة .
وبذلك كانت معجزة القرآن أنه غدا روحا جديدة يسري في أوصال المجتمع العربي والإسلامي فيهدم حطام الجاهلية وأوثانها ، ويقيم على أشلائها دولة جديدة تؤمن بالله ورسوله وتهتدي بكتابه الذي أنزله نورا وهدى . فترى المسلم إما عابدا في مسجده أو ساعيا على رزقه أو مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الله . وجمعت المسلمين تحت راية جديدة عمادها الإخلاص وأساسها الحب لله ولدينه وقوتها في تماسك المسلمين وأخوتهم وترابطهم وتساندهم ، فصلة الرحم والعطف على الفقير والبعد عن الكبر والشح والظلم كلها آداب سلوكية جعلت من المؤمنين خير أمة أخرجت للناس .
( وفي الآيات : 39-58 ) تحدثت السورة عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله وعن البعث واستبعادهم لوقوعه وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأمرت المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ويتكلموا بالتي هي أحسن .
( وفي الآيات : 59-76 ) بينت السورة لماذا كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم معجزة عقلية خالدة ولم تكن معجزة مادية محدودة ، فقد كذب الأولون بالخوارق فحق عليهم الهلاك إتباعا لسنة الله ، كما تناولت الحديث عن الإسراء وحكمته ، وأن الله جعله فتنة وامتحانا للناس ليتميز المؤمنون ، وينكشف المنافقون ، ويجيء في هذا طرف من قصة إبليس وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم .
يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الظلال الذي يبدو من المشركين ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان وتفضيله على جميع المخلوقات وتسخير جميع الكون له حتى يفكر بعقله ويؤمن بقلبه فمن اهتدى أخذ كتابه بيمينه يوم القيامة ومن عمى عن الحق في الدنيا فهو في الآخرة أعمى وأظل سبيلا .
( وفي الآيات 73-88 ) تستعرض السورة كيد المشركين للرسول ومحاولتهم فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحلولة إخراجه من مكة ، ثم تأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه يقرأ القرآن ويؤذي الصلاة ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ، وتذكر رسالة القرآن بأنها شفاء لأمراض الجاهلية ورحمة بالجماعة الإسلامية .
( وفي الآيات : 77-111 ) ختام السورة ويستمر فيها الحديث عن القرآن وإعجازه على حين يطلب كفار مكة خوارق مادية ويطلبون نزول الملائكة ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرؤونه . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة لا طلب الهدى والاقتناع ، ويرد الله على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وطبيعة الرسالة .
فالرسول يوحى إليه وليس إلها يتحكم في مظاهر الكون ، وقد سبق أن أعطى الله موسى معجزات مادية فكذب بها فرعون وجحد نبوة موسى فكانت العاقبة أن أغرق الله فرعون ومن معه من المكذبين .
إن طريقة القرآن هي طريقة الدعوة الهادفة المتأنية وقد نزل مفرقا ليقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم على قومه في هدوء وتؤدة وليجيب على أسئلة السائلين وليكون كتاب الحياة يحياها مع المؤمنين يعلمهم دينهم ويرد عنهم دعاوى أعدائهم ويلفت أنظارهم إلى الكون وما فيه حتى يعبدوا الله ويسجدوا له عن خشوع ويقين وتختم السورة بحمد الله وتنزيهه عن الولد والشريك في الملك كما بُدئت بتنزيه الله وتسبيحه . وإذا أردنا إيجازا أكثر أمكننا أن نرجع أهداف سورة الإسراء إلى الأمور الآتية :
1- معجزة الإسراء من مكة إلى بيت المقدس : آية 1 .
2-تاريخ بني إسرائيل وإسرائيل وإفسادهم في الأرض وعقوبة الله لهم : الآيات : 2-8 .
3- جملة من الآداب يجب على المسلمين أن يتحلوا بها حتى تظل رابطتهم قوية متماسكة ، وحتى لا يصيبهم ما أصاب اليهود عندما أفسدوا في الأرض : 23-29 .
4- بيان أن كل ما في السماوات والأرض مسبح لله : آية 44 .
5- الكلام في البعث مع إقامة الأدلة على إمكانه : الآيات 50-55 .
6- الرد على المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة من الأوثان والأصنام آية : 46 .
7- الحكمة في عدم إنزال الآيات التي اقترحوها على محمد صلى الله عليه وسلم : آية : 46 .
8- قصة سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس من ذلك الآيات : 61-65 .
9- تعدد بعض نعم الله : الآيات 66-72 .
10- طلب المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض معتقداتهم وإلحافهم في ذلك : الآيات 73-77 .
11- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة والتهجد في الليل : 78-87 .
12- بيان إعجاز القرآن وأن البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله : الآيات : 88-100 .
13- قصة موسى مع فرعون : 101-105 .
14- الحكمة في إنزال القرآن منجما : الآيات 106-110 .
15- تنزيه الله عن الولد والشريك والناصر والمعين : الآية 111 .
أهداف السورة تؤيد أنها سورة مكية نزلت تثبت العقيدة وترسل أدب السلوك وتذكر تاريخ اليهود . ثم تناقش المشركين في آلهتهم ، وفي تعنتهم وكفرهم ، وتذكر طرفا من قصة آدم وإبليس وقصة موسى وفرعون لتوضح عقوبة المتكبرين ومثوبة المؤمنين . وفي أثناء السورة حديث عن القرآن وإعجازه ، وعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وتعديد نعم الله على خلقه لتستميل الناس إلى الإيمان بالله وتقيم الحجة على أعداء الدين .
ومما لا شك فيه أن تصورنا لموقف الإسلام في مكة قبل الهجرة يعيننا كثيرا على فهم الصورة ويوضح أن القرآن كان كتاب الحياة ، صور موقف المشركين وعقيدتهم وتعنتهم ، وذكر كرفا مما أصاب الأولين علهم يتعظون أو يعتبرون ، قال تعالى : { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . ( طه : 113 ) .
إنك تحس من خلال النص بنبضات حية تصور عانة المشركين وظلال عقيدتهم وتبرز أسلوب الدعوة الجديد الذي يملك الحجة على قضية الألوهية ويسوق الأدلة على قضيته من سجلات التاريخ ومن مواقع الكون ومشاهده ، ومن التحدي بالقرآن وتأكيد عجزهم عن الإتيان بمثله .
والقرآن من خلال حديثه ينتقل من فن إلى فن ، ومن وصف للإسراء إلى تاريخ لليهود إلى رد على دعوى المشركين إلى قصص لآدم وإبليس وفرعون وموسى .
ويربط القرآن بين هذه الأفكار المتناثرة برباط قوي متين يؤكد أنه كتاب الله ، ولو كان من صنع بشر لتلمس طرقا للانتقال فكل كاتب تجد في كتابته أثرا للقوة في مكان ، ثم تفتر قوته في مكان آخر ، قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } . ( النساء : 82 ) ، وقد تعرضت علوم السابقين للنقض والتعديل ، ولم يبق كتاب في تاريخ البشرية سلم من النقض والعيب إلا هذا الكتاب .
وفي سورة الإسراء : آية 88 يقول الله عز وجل : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } .
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه ، من آياتنا إنه ، هو السميع البصير ( 1 ) }
سبحان : اسم فعل لتسبيح الله{[322]} وتنزيهه ، فمعنى سبحان الله : أسبح الله سبحانه التقديس والتنزيه على السوء من الذات والصفات والأفعال والأسماء والأحكام أي ما أبعد الذي له هذه الصفات عن جميع النقائص .
أسرى : سار في الليل{[323]} ومعنى أسرى به صيره ساريا .
ليلا : أي في جزء من الليل ، أو في ساعات منه{[324]} .
من المسجد الحرام : أي : ابتداء الإسراء المسجد الحرام وسمي حراما لتحريم القتل والعدوان فيه ، حتى لو وجد فيه قاتل أبيه حرم عليه قتله داخل المسجد لقوله : ومن دخله كان آمنا .
إلى المسجد الأقصى : هو بيت المقدس وسمي الأقصى ؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام .
الذي باركنا حوله : بارك الله حوله بركات مادية ومعنوية وأحاطه ببركات الدنيا والدين ، فجعل حوله الأشجار والثمار وجعله متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي ومسرى محمد صلى الله عليه وسلم .
لنريه من آياتنا : فيها بيان لحكمة الإسراء ، وقد رأى النبي من آيات الله ودلائل قدرته الكثير ورأى صورا وأشكالا جسمت فيها المعاني بصورة ملموسة محسوسة .
كما رأى الملائكة تعبد الله على أشكال شتى منها القائم ، والراكع ، والساجد ، ورأى الأنبياء والمرسلين ، ورأى الجنة والنار .
وكان لدى النبي صلى الله عليه وسلم من الصفاء والنقاء والطهر ما جعله أهلا لأن يرى آيات الله في هذا الكون وأن يتفتح قلبه الشريف ليحيط بأسرار الكون ونظمه وليرى العالم العلوي وملائكة السماء ، وهناك فرض الله عليه الصلاة تحية خالدة لهذا اللقاء الكريم .
إنه هو السميع البصير : السميع بدعاء محمد صلى الله عليه وسلم ، البصير بما أصابه من أذى المشركين وهو يسمع ويرى ما لطف دق وخفا عن الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
1- { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .
تحدثت الآية على تنزيه الله أن يكون له صاحبة أو ولد وبينت أن الإسراء بعبد من عبيد الله اختاره واصطفاه ، وأن العبودية كلما تحقق مضمونها من الخضوع والخشوع والإخلاص لله سما صاحبها وزاد قدره وكان الإسراء من أول بيت وضع للناس ، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، حيث كانت الرسل تتعبد وحيث اعترفت له الأنبياء بالرسالة ، وحيث صعد من هذا المكان الطاهر إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى إلى جنة المأوى ، ولم يتحول بصره يمينا ولا شمالا ولا تجاوز الطريق المرسوم ، بل كان في سمت النبيين وأمانة الصديقين وسمو المرسلين .
المعراج والمصعد والمرقى كلها بمعنى واحد تدل على الصعود والارتقاء ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم هو صعوده إلى السماوات العلا ، حيث لقي من فضل الله الكثير ورأى من آيات ربه الكبرى .
وكان الإسراء والمعراج في ليلة واحدة ، الإسراء رحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، والمعراج رحلة سماوية إلى الملإ الأعلى . وقد تحدثت سورة النجم عن المعراج في قوله تعالى : { والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى . ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى . } ( النجم : 1-18 ) .
وقع الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة ، قبل الهجرة بسنة{[325]} أو قبلها بسنة وشهرين .
وكان المشركون قد أمعنوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم وبالغوا في تعذيب المسلمين حتى اضطروهم للهجرة إلى الحبشة مرتين ، ولما يئس النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ذهب إلى الطائف وبها قبائل ثقيف فدعاهم للإسلام ورغبهم في الإيمان ، وكان يأمل أن يجيبوه إلى دعوته ، ولكنهم ردوه أسوأ رد وأرصدوا له الغلمان يرجمونه بالحجارة ، حتى دميت قدماه الشريفتان ، وقد أغمى على النبي من شدة الإيذاء{[326]} ، فلما أفاق وجد نفسه مكذبا في قومه مضطهدا في مكة معذبا في الطائف وحيدا غريبا ، فمد يده إلى الله سبحانه قائلا :
( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا رب العالمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلا من تكلني ، إلى عدو يتجهمني أو بعيد ملكته أمري ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخر أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك ، لك العتبى حتى ترضى . عافيتك هي أوسع لي إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ) .
وقد جاءه جبريل وقال : يا محمد هذا ملك الجبال ، وإن الله أمره أن يطيعك في قومك بسبب ما فعلوه بك ، فئن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين ( جبلين بمكة ) ، فعل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا تفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله . اللهم اهد قومي فهم لا يعلمون .
فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : صدق من سماك الرءوف الرحيم .
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة حزينا كئيبا ولم يستطع دخولها إلا في جوار المطعم بن عدي .
كانت الفترة التي سبقت الإسراء من أقسى الفترات على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وكان الامتحان قاسيا ، يواجه المؤمنين كل يوم بفتنة ومحنة ويستنصر المؤمنون رسول الله قائلين : ألا تعدوا الله لنا ، ألا تستنزل غضبه على عدونا ، فيجيبهم بأن طريق الدعوة طريق وعر وصعب ، وأن على المؤمن أن يتحمل البلاء في ذات الله ، ويصبح فيهم : ( والله لقد كان يؤتى بالرجل فيمن قبلكم فيشق بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدميه فما يصده ذلك عن دينه ، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده ليتمن الله ذلك الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) .
كان فضل الله على المؤمنين في هذه الفترة المؤلمة ؛ أن أعطى نبيه عليه السلام معجزة إلهية كبرى ؛ ليرى عوالم أخرى وليصعد في السماء ؛ وليرى من فضل الله ونعمه الكثير ثم يعود بالصلاة صلة بين المؤمنين وربهم فهي العون للمؤمن في رحلة الحياة وهي الملجأ والملاذ إلى الله وهي فترة المناجاة والمناداة فيها تسمو الروح وتطهر النفس ويناجي العبد إلها سميعا بصيرا مجيبا .
وردت قصة الإسراء والمعراج في كتب السنة الصحاح وسرت بين الأمة سريانا مستفيضا ووعتها بطون الكتب وتحدث بها الرواة حتى نقلها من أعاظم الرجال خمسة وأربعون صحابيا بطرق شتى وأخذها جيل عن جيل في تواتر وإجماع .
وأمر في جملته خاضع لقدرة الله التي لا تقف أمامها حدود وهو معجزة لرسول الله . والمعجزة : أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعي الرسالة تصديقا له في دعواه ، وليس فيما كشفه العلم من قوانين الجذب العام ونظام الأفلاك ومسابح النجوم وعناصر الكواكب ونواميس الحركة وطبقات الهواء وتحديد الحركات ومعايير السرعة- ليس في ذلك كله وما يتصل به- ما يقف أمام الإسراء والمعراج .
فقد ثبت أن نجم المشتري يجري بسرعة ثلاثين ألف ميل في الساعة فيجري تسعة أميال كلما تنفس الإنسان . والمشتري أكبر من أرضنا بألف وأربعمائة مرة . وأن الله الذي جعل هذا الجسم الكثيف الهائل يقطع الأبعاد الشاسعة في لحظات لا يبعد عليه أن يسري بنبيه الكريم من مكة إلى بيت المقدس على مقتضى ناموس لا نعرفه ، وإن كان الوجود يشتمل عليه ، ما دام العلم قد أثبت سرعة عجيبة لأجرام كثيفة .
وإننا نشهد كل يوم كشفا عن ناموس ، وأبطالا لناموس ، حتى لقد صرح بعض علماء الغرب بأن أخوف ما نخافه أن ما نفاخر به اليوم من العلوم يصبح بعد مائة سنة باطلا منسوخا .
ويؤثر لرئيس مجمع ترقي العلوم بجامعة كمبردج سنة 1854م أن كنه المادة غير معروف ، وأن منتهى علمها مبتدأ جهلها .
ونحن إذا طوينا القرون القهقري فرجعنا إلى ما قبل اليوم منذ قرنين اثنين ، أفكنا نحسب موجات الأثير وعدسات التيلفزيون والتلستار تنقل صوت الإنسان وصورته إلى الأبعاد الشاسعة والأقطار النائية ؟
إن الإنسان قد أخذه العجب العجاب عند اختراع الطائرة العادية ، ثم الطائرة النفاثة والأطباق الطائرة ، والأقمار الصناعية .
وكان وصول الإنسان إلى القمر أخيرا خبرا مذهلا أخذ على الناس في كل أصقاع الدنيا لبهم واستولى على اهتمامهم ، وذلك كله مما يقرب في ذهن الإنسان سهولة الإسراء والمعراج خاصة وأنهما يقعان في دائرة القدرة الإلهية التي يخضع لها كل شيء في عالم السماوات والأرض والهواء والفضاء ، قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ( الزمر : 67 ) .
هذه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة ترسم سورة الإسراء وتحكي قصته ومشاهداته بروايات متعددة .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتيت بالبراق ، وهو دابة بيضاء ، فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته ، فسار بي ، حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل عليه السلام : أصبت الفطرة ، فقال : ثم عرج بي إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل عليه السلام ، فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل : قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بآدم ، فرحب بي ودعا لي الخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا فإذا بابني الخالة يحيى وعيسى ، فرحبا بي ، ودعوا لي الخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل . فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام ، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن . فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل . فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي الجير .
يقول الله تعالى : { ورفعناه مكانا عليا } ( مريم : 57 ) .
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل . فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل . فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : قد أرسل إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ودعا لي الخير .
ثم عرج بنا على السماء السادسة ، فاستفتح جبريل . فقيل له : من أنت ؟ قال جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى عليه السلام ، فرحب بي ودعا لي الخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل . فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه .
ثم ذهبت إلى سدرة المنتهى : فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها ، تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها ، قال : فأوحى الله إلى ما أوحى ، وقد فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة .
فنزلت حتى انتهيت إلى موسى . قال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قال : خمسين صلاة في كل يوم وليلة .
قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم . قال : فرجعت إلى ربي ، فقلت أي رب خفف عن أمتي ؛ فحط عني خمسا .
فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فقال : ما فعلت ؟ فقلت : حط عني خمسا : فقال : إن أمتك لا تطيق ذاك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك .
قال : فلم أزل أرجع بين ربي ، وبين موسى ، ويحط عني خمسا خمسا ، حتى قال : يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها ، كتبت له حسنة . فإن عملها كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة .
فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته . فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رجعت إلى ربي حتى استحيت ) ( رواه مسلم بهذا السياق ){[327]} .
قال البيهقي : وفي هذا السياق : أن المعراج كان ليلة أسرى به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس .
ويقول بن كثير عن ذلك : وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية .
وقبل أن نبدأ أحاديث أخرى نذكر أنه :
ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء ، والمتكلمين ، إلى أن الإسراء والمعراج :
وقعا في ليلة واحدة في اليقظة ،
بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه ،
ولقد توارد على ذلك- كما يقول الإمام ابن حجر- ظواهر الأخبار الصحيحة ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله {[328]} ، حتى يحتاج إلى تأويل .
ولو كان مناما ، أو بالروح فقط لما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم مكذب ، لجواز وقوع مثل ذلك أو أبعد منه لآحاد الناس : إن الناس في الرؤيا يرون أنهم سافروا وأبعدوا ، وجاءوا وعقدوا العقود ورأوا نتائج عقودهم وثمار جهودهم ، فلو كنا بصدد رؤيا لما ارتاب في صدق الصادق الصدوق صلوات الله وسلامه عليه إنسان .
ولما أشفقت السيدة أم هانئ رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما أخبرها الخبر ، وقال : إنه سيحدث الناس به ، فأرادت منه أن يعدل عن ذلك قائلة : إنهم سيكذبونك ، فلم يستجب صلوات الله وسلامه عله لنصيحتهما ، لأن الحق ينبغي أن يذاع ، وأذاعه صلى الله عليه وسلم بين الناس . وحدث ما حدث مما سنذكر بعضه فيما بعد إنشاء الله .
وفي حديث عند الطبراني البراز ، أنه عليه الصلاة والسلام : مر على قوم يزرعون ويحصدون في يوم ، كما حصدوا عاد كما كان فقال لجبريل عليه السلام : ما هذا ؟
قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين .
ثم أتى قوما ترضخ رءوسهم بالصخر ، كلما رضخت عادت كما كانت ، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء .
قال : هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة .
ثم أتى على قوم ، على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع .
قال : هؤلاء الذين لا يؤذون زكاة أموالهم ، وما ظلمهم الله ، وما ربك بظلام للعبيد .
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر ، ولحم نيىء في قدر خبيث فجعلوا يأكلون من النيىء الخبيث ويدعون النضيج .
قال جبريل : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده امرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا ، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح .
ثم أتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها .
قال : هذا رجل من أمتك ، تكون عليه أمانات الناس ، لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها .
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء .
قال : ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع .
قال : هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة يندم عليها فلا يستطيع أن يردها .
ثم أتى على واد فوجد فيه ريحا طيبة باردة ، وريح مسك وسمع صوتا .
قال : هذا صوت الجنة ، تقول رب آتني بما وعدتني ، فقد كثرت غرفي وإستبرقي وحريري وسندسي ، وعبقريي ، ولؤلئي ، ومرجاني ، وذهبي ، وأكوابي ، وصحافي ، وأباريقي ، ومواكبي ، وعسلي ، ومائي ، ولبني ، وخمري ، فأتني بما وعدتني .
قال : لك كل مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي وعمل عملا صالحا ، ولم يشرك بي شيئا ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني فقد أعطيته ، ومن أقرضني جازيته ، ومن توكل علي كفيته ، إنني أنا الله لا إله إلا أنا ، لا أخلف الميعاد ، قد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين .
ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة .
قال : هذا صوت جهنم ، تقول ربي آتني بما وعدتني فقد كثرة سلاسلي ، وأغلالي ، وسعيري ، وحميمي ، وضريعي ، وغساقي ، وعذابي ، وقد بعد قعري ، واشتد حري ، فأتني بما وعدتني .
قال : لك كل مشرك ومشركة ، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب .
وفي حديث أبي سعيد : أنه رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد . وأخرى عليها لحم نتن ، عليها ناس يأكلون .
قال جبريل : هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام .
وفيه : أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت ، كلما نهض أحدهم خر ، وأن جبريل قال له : هم أكلة الربا .
وأنه مر بقوم مشافرهم كالإبل يلتقمون جمرا فيخرج من أسافلهم ، وأن جبريل قال له أن هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما .
وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم ، فيطعمون وأنهم الغمازون اللمازون .
وأنه مر بنساء تعلقن بثديهن ، وأنهن الزواني .
وفيه : حتى أتيت بيت المقدس أوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيها ، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس ، فصلى كل واحد منا ركعتين .
في رواية أنس عن مسلم : ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام ، بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن .
فقال جبريل : اخترت الفطرة . أي : اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة .
وقال النووي : المراد بالفطرة هنا : الإسلام والاستقامة .
وفي رواية ابن مسعود : ثم خلت المسجد فعرفت النبيين : ما بين قائم ، وراكع وساجد .
ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة ، فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا ، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم .
وأخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } . ( الإسراء : 60 ) ، قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليلة أسري به {[329]} .
وأخرج الطبري الأوسط في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه يقول : ( إن محمدا صلى الله عليه وسلم ، رأى ربه مرتين : مرة ببصره ، ومرة بفؤاده ) .
نظر محمد إلى ربه ، قال عكرمة : فقلت له : نظر محمد إلى ربه ؟
قال : نعم جعل الكلام لموسى ، والخلة لإبراهيم ، والنظر لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وأخرجه البيهقي في ( كتاب الرؤيا ) بلفظ :
إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا بالرؤيا .
أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟
وأخرج أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ربي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ربي عز وجل ) .
وأخرج أحمد والنسائي والبزار والطبراني والبيهقي ، وابن مردويه بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما أسرى بي مرت بي رائحة طيبة ، فقلت : ما هذه الرائحة ؟
قالوا : ماشطة بنت فرعون وأولادها ، سقط مشطها منها فقالت : بسم الله .
فأمر ببقرة من نحاس ، فأحميت ، ثم أمر بها لتلقى فيها وأولادها فألقوا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم ، فقال :
قعي يا أمه ولا تقاعسي فإنك على حق .
قال : وتكلم أربعة ، وهم صغار ، هذا ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريح وعيسى بن مريم .
وأخرج الترمذي- وحسنه- وابن مردويه . من عبد الرحمان ، عن ابن مسعود قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقلت : يا محمد أقرأ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وأخرج أحمد وأبو داود من طريق عبد الرحمان بن جبير عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يل جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم .
وأخرج ابن مردويه من طريق قتادة وسليمان التميمي وتمامة ، وعلي بن زيد ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليلة أسري بي مررت بناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت عادت ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ ، قال : هؤلاء خطباء أمتك يقولون ما لا يفعلون ) .
وأخرج ابن ماجة والحكيم الترمذي ( في نوادر الأصول ) وابن أبي حاتم وابن مردويه ، هن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة ، الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ) .
فقلت لجبريل : ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟
قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة .
وأخرج ابن مردويه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ليلة أسري بي رجلا يسبح في نهر ويلقم الحجارة ، فسألت : من هذا ؟ فقيل لي : هذا آكل الربا .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما- فيما رواه الإمام أحمد- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما كانت ليلة أسري بي ، وأصبحت بمكة ، فظعت أمري ، وعرفت أن الناس مكذبي .
قال : فمر عدو الله أبو جهل المستهزئ : هل كان من شيء ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم .
قال : فلم ير أنه يكذبه ، مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه .
قال : أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم .
فانطلق أبو جهل فقال : هيا يا معشر بني لؤي .
قال : فانتفضت إليه المجالس ، وجاءوا حتى جلسوا إليهما .
فقال أبو جهل : حدث قومك بما حدثتني .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أسري بي الليلة .
قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟
فإذا بالقوم بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب .
قالوا : وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ - وفي القوم من سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذهبت أنعت ، فما زلت أنعت حتى التبس على بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر ، حتى وضع دون دار عقيل ، فنعته وأنا أنظر إليه .
قال : فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب .
وعن الحسن : أنه في يوم الحديث عن الإسراء : ارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له : هل لك يل أبا بكر في صاحبك ؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة .
فقال لهم أبو بكر : إنكم تكذبون عليه ؟
فقالوا : لا ، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس .
قال أبوا بكر : لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه يخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه .
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، أحدثت هؤلاء القوم أنك أتيت بيت المقدس هذه الليلة ؟
قال : يا نبي الله فصفه لي ، فإني قد جئته ؟
قال الحسن : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فرفع لي حتى نظرت إليه . فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف لأبي بكر ويقول أبو بكر : صدقت ، أشهد أنك رسول الله ، وكلما وصف له منه شيئا ، قال صدقت أشهد أنك رسول الله قال : حتى انتهى .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنت يا أبا بكر : ( الصديق ) .
هذا هو الموجز لما ترويه السنة مؤيدة للقرآن عن هذا النبإ الجليل ، ولقد حاول ابن إسحاق أن يبين الحكمة في هذا الحادث فقدم- حسبما يروي ابن هشام- لحديث الإسراء بكلمة نفيسة يقول فيها :
وكان في مسراه ، وما ذكر منه ، بلاء وتمحيص ، وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن بالله وصدق . وكان من أمر الله على اليقين .
فأسرى به كيف شاء ، وكما شاء ؛ ليريه من آياته الكبرى ، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد .
يقول الإمام البوصيلي في ( همز يته ) :
فطوى الأرض سائرا والسماوا *** ت العلا فوقها له إسراء
فصف الليلة التي كان للمختا *** ر فيها على البراق استواء
وترقى به إلى قاب قوسين *** وتلك السيادة القعساء
رتب تسقط الأماني حسرى *** دونها ما وراءهن وراء
ثم وافى يحدث شكرا *** إذا أتته من ربه النعماء
وتحدى فارتاب كل مريب *** أو يبقى مع السيول الغثاء
ويقول شوقي في قصيدته التي عارض فيها الإمام البوصيري :
يتساءلون وأنت أطهر هيكل *** بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرا وكلاهما *** نور وروحانية وبهاء
فضل عليك لذى الجلال ومنة *** والله يفعل ما يرى ويشاء
تغشى العيون من العوالم كلما *** طويت سماء قلدتك سماء
في كل منطقة حواشي نورها *** نون وأنت النقطة الزهراء
أنت الجمال بها وأنت المجتلي *** والكف والمرآة والحسناء
الله هيأ من حظيرة قدسه *** نزلا لذاتك لم يجزه علاء
العرش تحتك سدة وقوائم *** ومناكب الروح الأمين وطاء
و الرسل دون العرش لم يؤذن لهم *** حاشا لغيرك موعد ولقاء
عنى الفلاسفة والمتصوفون الإسلاميون بتلمس حكمة الإسراء ، وكان الصوفية يجدون فيها دليلا عمليا على أهمية العناية بالنفس الإسلامية ، وأن الروح سر من أسرار الله في الإنسان ، إذا تطهرت من سيطرة المادة وزاد تعلقها بالحق والخير ، فإنها تسمو إلى الملأ الأعلى ، بل إن الروح إذا عظمت العناية بها صارت أقصى من الجسد وتلاشت مادية الجسم أمام سمو الروح وانطلاقها .
ويذكرون أن الرياح أن الرياح أجسام لطيفة فقط ، وليست روحية مع أنها تزعزع الأشجار الباسقة وتقتلع الأوتاد العاتية وتفتت الصخور الجاثمة .
والكهرباء- وهي من اللطافة بحيث ترى آثارها ولا ترى آثارها ولا ترى حقيقتها- تحول خواص الأجسام إلى أضدادها وتبعث اليوم في الدنيا حياة جديدة ، فهي تحمل الأثقال وتقلقل الجبال وترسل الصواعق فتنشر الضوء وتؤجج النيران ، وهذا يعطينا دليلا على مدى ما للأجسام اللطيفة من سلطان على المادة .
فالإسراء بالنبي ليلا وصعوده إلى السماوات العلا أثر من آثار تزكية النفس وتطهيرها ، بل إن مروره في السماوات على الملائكة يمكن أن يدل على منازل الأنبياء ، وتكون السماء إشارة إلى كل ما علاك ومنازل الأنبياء في السماوات حسب درجاتهم وجهادهم ، ويكون لرسول الله منزلة أعلى ، تجاوزت في روحانيتها آدم في سمائه الأولى ، ثم تجاوزت يحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في سمائه السابعة .
تجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك وتجاوز الكون كله إلى سدرة المنتهى وإلى شجرة النهاية ، ثم إلى حيث لا يبلغ ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى قاب قوسين أو أدنى{[330]} .
إذا كانت التوجيهات السابقة ، إنما كانت لتدلنا على مقام رسول الله ، صلوات الله عليه وسلامه ، فنزداد بذلك تقديرا وحبا وإتباعا ، فإن من هدى الله سبحانه وتعالى وتوجيهاته في نبإ الإسراء والمعراج : هذه الرمزيات الأخلاقية التي تربط ربطا محكما بين الدين والأخلاق .
والواقع أن الأخلاق في جو الإسلام مرتبطة بالدين ارتباطا لا ينفصل ، منه تنبع ، وعلى أساسه تقوم ، وعنه تصدر ؛ لأنها جزء من الدين الإسلامي لا يتجزأ ، مصدرها هو مصدره : إلهي رباني .
وبعض الناس في العصر الحديث يريد أن يجعل للأخلاق مصادر أخرى ، يريد بعضهم أن يجعل أساس الأخلاق الضمير ، بيد أن ذلك خطأ بين ، فالضمير يربي ويكون ، وتربيته وتكوينه هما شكله ، ونزعته واتجاهه ، الذي يتكيف بحسب الثقافة والبيئة والعصر والوسط .
إن الضمير يصنع كما تصنع المزيقات ، وهو إذن مقياس للأخلاق خاطئ .
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة العامة ، ولكن المصلحة العامة كلمة غير محددة ، وكل من يتحدث باسم المصلحة العامة إنما يتحدث باسم فكرته هو ، منحرفة كانت هذه الفكرة أو غير منحرفة .
فالمصلحة العامة إذن كأساس للأخلاق إنما هي : أساس غير مضمون .
وبعض الناس يريد أن يرجع بالأخلاق إلى المصلحة الشخصية أو إلى اللذة ، أو إلى المنفعة . وكل هذا وارد الغرب الأوروبي ، أو الغرب الأمريكي عندما انحرف هذا الغرب وألحد .
أما وارد الشرق الإسلامي ، أو بتعبير أدق ، وارد الإسلام الإلهي ، فإن مقياس الأخلاق فيه : إنما هو المبادئ الدينية ، إنما هو آيات القرآن ، وإنما هو الفضائل التي أوحاها الله سبحانه وتعالى ، هذه الفضائل التي حددها القرآن في أسلوب عربي مبين وتحدث عنها نبأ الإسراء والمعراج في صور رمزية دالة هادفة مؤثرة وبينتها السنة النبوية الشريفة ، وركزها القرآن والسنة على أسس من الإيمان قوية ثابتة ، إنها في رحلة الإسراء والمعراج تكون منهج حياة مؤسسة على الإيمان بالله ورسوله{[331]} .
لعله أصبح واضحا أن الإسراء هو الانتقال بالنبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
وأن المعراج هو العروج به إلى السماوات العلا .
ولعل سائلا يسأل ، هل كان الإسراء بالروح والجسد أم بالروح وحدها ويمكن أن نوضح الجواب بما يأتي :
1- أكثر العلماء أن الإسراء كان بالروح والبدن يقظة لا مناما ولهم على ذلك أدلة :
( أ ) أنه لو كان مناما ما كانت قريش تبادر إلى تكذيبه ، ولما قالت أم هانىء : لا تحدث الناس فيكذبوك ، ولما فضل أبو بكر بالصديق ، وجاء في الحديث عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، ( لم أعرفها حق المعرفة ) . فكربت كربا ما كربت مثله قط . فرفعه الله لي أنظر إليه ، فما سألوني عن شيء إلا أنبأهم به ( الحديث ){[332]} .
( ب ) أن التسبيح والتعجب- في قوله : { سبحان الذي أسرى بعبده }- إنما الأمور العظام ، ولو كان ذلك مناما لم يكن فيه كبير شأن ، ولم يكن مستعظما .
( ج ) أن قوله : بعبده يدل على مجموع الروح والجسد .
( د ) أن ابن عباس قال في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ؛ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى لله عليه وسلم ليلة أسري به ويؤيده أن العرب قد تستعمل الرؤيا في المشاهدة الحسي ، ألا ترى إلى قول الراعي يصف صائدا :
وكبر للرؤيا وهش فؤاده *** وبشر قلبنا كان جما بلابله
( ه ) أن الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها ، فقد جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة ، قال تعالى : { غدوها شهر ورواحها شهر } . وجاء فيه أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى الشام في مقدار لمح البصر ، كما قال تعالى : { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } . وإذا جاز هذا لدى طائفة من الناس جاز لدى النبي بالأولى .
ويرى آخرون أن الإسراء كان بالروح فحسب ، ولهم على ذلك حجج :
( أ ) أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سأل عن سري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان رؤيا من الله صادقة ) ، وقد ضعف هذا ؛ بأن معاوية يومئذ كان من المشركين فلا يقبل خبره في مثل هذا ، أو أن هذا رأى لمعاوية لا سند له .
( ب ) أن بعض آل بني بكر قال : كانت عائشة تقول : ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أسري بروحه ، ونقدوا هذا ؛ بأن عائشة يومئذ كانت صغيرة ولم تكن زوجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
( ج ) أن الحسن قال : في قوله : { وما جعلنا الرؤيا . . . } الآية ، أنها رؤيا منام رآها ، والرؤيا تختص بالنوم .
قال أبو جعفر الطبري : الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسري بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده ، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات ولا معنى لقول من قال : أسري بروحه دون جسده ؛ لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته ، ولا حجة على رسالته ، ولا كان الذي أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه ؛ إذ لم يكن منكرا عندهم ، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل- وبعد فإن الله إنما أخبر في كتابه : أنه أسري بعبده ولم يخبرنا بأنه أسري بروح عبده ، وليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره- إلى أن الأدلة الواضحة والأخبار المتابعة عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أن الله أسري به على دابة يقال لها : البراق ، ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد . 1ه .
أن الذي عليه المعول عند جمهرة المسلمين أنه أسري به عليه السلام يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله يصلي في قبلته تحية المسجد ركعتين وعرج به إلى السماء وعاد منها ثم ركب البراق وعاد إلى مكة قبل الفجر .
10- إننا لنقف قليلا عند هذين الحادثين الجليلين ؛ لنستخلص منهما أمورا هي غاية في العظة والاعتبار :
1- أن هاتين الرحلتين : الرحلة الأرضية ( الإسراء ) والرحلة السماوية ( المعراج ) حدثتا في ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة ؛ ليمحص الله المؤمنين ويبين منهم صادق الإيمان ومن في قلبه مرض ؛ فيكون الأول خليقا بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة والانضواء تحت لوائه ، وجديرا بما يحتمله من أعباء عظام وتكاليف شاقة من حروب دينية ، وقيام بدعوة عظيمة تستتبع همة قعساء وإنشاء دولة تبتلع المعمور في ذلك الحين شرقا وغربا .
2- أن الله أطلع رسوله على ما في هذا الكون أرضية وسماوية من العظمة والجلال ؛ ليكون ذلك درسا عمليا ؛ لتعليم رسوله بالمشاهدة والنظر ، فإن التعليم بالمشاهدة أجدى أنواع التعليم ، فهو وإن لم يذهب إلى مدرسة أو يجلس إلى معلم أو يسبح في أرجاء المعمورة أو يصعد بالآيات العلمية إلى السماء ؛ فقد كفل له ربه ذلك بما أراه من آياته الكبرى وما أطلعه من مشاهدة تلك العوالم التي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيل والتوهم ، فأنّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنا الكثير من العلم ولم نؤت إلا قليله { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } .
3- أن ما يجد كل يوم من ضروب المخترعات والتوصل بها إلى طي المسافات بوسائل الطائرات والنفاثات والأقمار الصناعية ، جعلنا نعتقد أن ما جاء في وصف هاتين الرحلتين- من الأمور الميسورة التي ليست بالعزيزة الحصول أو الأمور المستحيلة .
4- أن روحانية الأنبياء تتغلب على كثافة أجسامهم ، فما يخيل إلينا من العوائق العملية من صعوبة الوصول إلى الملإ الأعلى ؛ لتخلخل الهواء واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء ، فهو إنما يكون بالنظر إلى الأجرام والأجسام المشاهدة في عالم الحس ، وأن لروحانية الأنبياء والملائكة أحكاما لم يصل العقل البشري إلى تحديدها وإبداء الرأي فيها وإنها لفوق مستوى إدراكه ، فأجدر بنا ألا نطيل البحث فيها ولا التعمق في استقصاء آثارها .
5- أن ما جاء في الحديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إماما بالأنبياء في عالم السماوات ؛ ليرشد أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بشريعة ختمت الشرائع السابقة كلها ، وأتمتها ومن أوتوها ألقوا الزعامة إليه وصاروا مؤتمين به .
6- أن في هذا مغزى جديرا بطويل التأمل والتفكر وهو أن جميع الأنبياء كانوا في وفاق ووئام في الملكوت الأعلى- بالقرب من ربهم الذي أرسلهم- أفلا يجدر بمتّبعيهم أن يقتفوا سنة رسلهم وأن يجعلوا أمرهم بينهم سلما لا حربا ، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة والقانون الذي جاءت به هو الشريعة التي يقضى بها بين الناس كما هو متبع في القوانين الوضعية ، فإن الذي يجب العمل به هو القانون الأخير منها .