تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (102)

آية السحر

101

المفردات :

تتلوا : تخبر وتحدث أو تقول .

على ملك سليمان : على عهد ملكه وفي زمانه .

السحر : إخراج الباطل في صورة الحق ، وهو في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح الحاء فيهما ، والسحر لغة كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ، وسحره : خدعه ، جاء في كلامهم : عين ساحرة وعيون سواحر وفي الحديث «إن من البيان لسحرا » ( 243 ) . والمراد هنا ، أمر غريب يشبه الخارق المعجز وليس بالخارق إذ يجري فيه التعلم ، كالذي حصل من سحرة فرعون . حيث أظهروا لموسى حبالهم وعصيانهم أنهم تسعى .

ببابل : بلدة قديمة ، كانت بالعراق ينسب إليها السحر .

هاروت وماروت : اسمان للملكين اللذين أنزل عليهما علم السحر .

فتنة : ابتلاء واختبار .

اشتروه : استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله .

خلاق : نصيب في الخير .

التفسير :

102- واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .

هذه الآية معطوفة على الآية السابقة . التي أفادت أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله وأعرضوا عنه ثم عطف هنا على هذه الجريمة وهي نبذهم لكتاب الله جريمة أخرى هي إتباعهم الشياطين بمزاولة السحر بدل كتاب الله .

والمعنى أن اليهود لما جاءهم الرسول بالقرآن نبذوه أو نبذوا التوراة التي بشرت به ، واشتغلوا بالسحر . والمراد مما تتلوه الشياطين : أي المتمردون من الإنس والجن . وقد كانت الشياطين في عهد سليمان تلقى كهان اليهود وتتلو عليهم قواعد السحر وتخبرهم كذبا : أن ملك سليمان وسلطانه على الإنس والجن ، والطير والريح ، لم يقم إلا على تلك القواعد ، فكانوا يدونونها عن الجن في كتب لديهم : توارثها الخلف عن السلف حتى وصلت إلى اليهود في المدينة فكانوا يشتغلون بها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما بعث رفضوا كتاب الله وفضلوا عليه الاستمرار في السحر .

وقد زعموا أن سليمان جمع كتب السحر من الناس ودفنها تحت كرسيه ، ثم استخرجها ، وهذا من مفتريات الأهواء نسبوها إليه كذبا وبهتانا .

قال الزمخشري وقوله تعالى : على ملك سليمان : أي على عهد ملكه وفي زمانه وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها إلى الكهنة ، وقد دونوها في كتاب يقرءونها ويعلمونها للناس ، وفشا ذلك في زمان سليمان عليه السلام حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسحر الإنس والجن ولريح التي تجري بأمره( 248 ) ،

وما كفر سليمان : تنزيه لسليمان عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا( 249 ) .

وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان ، وأنه ارتدى في آخر عمره وعبد الأصنام وبني لها المعابد ، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرا يركب الريح .

ولكن الشياطين كفروا : أي ولكن الشياطين من الإنس والجن الذين نسبوا إلى سليمان ما انتحلوه من السحر ودونوه وعلموه الناس هم الذين كفروا .

يعلمون الناس السحر : أي الشياطين يعلمون الناس السحر إغواء وإضلالا . والجملة حال من الضمير ، والمراد من السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط في التضامن والتعاون .

وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي .

وأما ما يتعجب فيه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات أو الأدوية ، أو يصنعه صاحب خفة اليد فغير مذموم وتسميته سحرا من التجوز أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه( 250 ) .

وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت : أي اتبع اليهود ما كانت تقرئه الشياطين على الكهنة من أبواب السحر من عهد سليمان .

واتبعوا أيضا ما أنزل على الملكين هاروت وماروت ببابل .

( وهاروت وماروت ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة . وما روى أنهما مثلا بشرين وركبا فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكى عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر . وقيل رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما )( 251 ) .

والمقصود من إنزال السحر على هذين الرجلين المشبهين بالملائكة ، وإلقاؤه في قلبيهما وتعليمهم إياه .

فكانا يعلمان الناس السحر لكي يتخلصوا بتعلمه من سيطرة السحرة من الصابئة ويتقوا شرورهم وكانا يمزجان التعليم بالتحذير : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر : أي ما يعلمان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان فلا تكفر ، باعتقاد جوازه والعمل به .

أو يقولا : إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا( 252 ) .

وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية :

أراد الله أن يبتلى به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر .

وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار . ( 253 ) .

فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه : أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة ، ما أنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف ، واختص الإفساد بين الزوجين بالذكر لأنه من الصور التي تظهر فيها مفسدة للسحر بأشد ما تكون ، فلهذا آثر إبرازها ، ليعلم الناس منها مدى ما يصل إليه السحر من الإضرار بالمجتمع ، فإن إفساد الأسرة إفساد للمجتمع ، لما فيه من تشريد الأولاد الذين هم أساسه .

روى المسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فبقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا ، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئا ، ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله ، قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت » ( 204 ) .

وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ، ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو بغض أو شك أو اتهام أو نحو ذلك .

والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان( 255 ) .

وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله . أي ما يضر السحرة بهذا أحدا كائنا من كان إلا بعلم الله وإرادته ، فهم إذن لا يستطيعون أن يحدثوا بسحرهم ضررا دون إرادة الله .

ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . من قبل أنه سبب في إضرار الناس ، هذا مما يعاقب الله عليه من عرف بإيذاء الناس أبغضوه واجتنبوه ولا نفع لهم فيه ، فإنا نرى منتحلي هذه المهن من أفقر الناس وأحقرهم ، وذلك حالهم في الدنيا ، فما بالك بهم في الآخرة يوم يجزي كل عامل بما عمل .

ولقد علموا لمن اشتروا ما له في الآخرة من خلاق . ولقد علم هؤلاء اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا السحر أن من استبدل السحر بكتاب الله وآثره على شرعه سبحانه ، ليس له أي حظ من الجنة ولا أي نصيب من الخير يوم القيامة ؛ لأنه لم يكن له إيمانا ولا عمل صالح يكافأ عليه . الضمير في . علموا . يعود إلى أولئك اليهود الذين ارتكبوا كتاب الله واستبدلوا به السحر .

وهي تفيد أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره ، إنما الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة .

ولبئس ما شروا به أنفسهم ولو كانوا يعلمون . شروا : أي باعوا ، وهي من الأضداد فتأتي بمعنى البيع والشراء .

بيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة ونعيمها .

المعنى : ولبئس هذا الذي باعوا به حظ أنفسهم من الخير ، هو تعلم السحر والعمل به ، لو كان عندهم علم وعقل لأدركوا أن هذا السحر ضار مفسد للنفس والعقل والناس ، ولامتنعوا عن تعلمه والعمل به . قال ابن كثير : لبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسل لو كان فيهم علم بما وعظوا .