تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (106)

النسخ

( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير( 106 ) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير( 107 ) أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل( 108 ) (

المفردات :

النسخ : في اللغة الإزالة ، يقال نسخت الشمس الظل : أي أزالته .

الإنساء : إذهاب الآية من ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغها إياه . ( أو ننسها ) نبح لكم تركها من نسى : بمعنى ترك ، دخلت عليه الهمزة للتعدية ، قال أبو علي وغيره من أئمة اللغة : هذا متجه لأنه بمعنى : نجعلك تتركها . وقرئ ننسأها بفتح النون مهموزا من نسأه إذا أخره ، أي نؤخر نزولها عليكم .

106

التفسير :

106- ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير : أي شيء من الآيات والأحكام ننهي عن التعبد به ، أو نجعلكم تتركونه ، نأتي بأفضل منهك مثوبة أو نفعا أو خفة على المكلفين ، أو نأتي بمثله في ذلك ، فإن تنزيل الآيات المشتملة على الأحكام الشرعية ، يكون وفقا للحكم والمصالح ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال ، وتقتضي نقيضه في حال أخرى . فلو لم يجز النسخ ، لاختل مابين الحكمة والأحكام من النظام . وهذا الحكم غير مختص بالآية الواحدة كاملة ، بل هو جار فيما فوقها وما دونها وتخصيصها بالذكر ، باعتبار الغالب .

لقد كان هناك تدرج في تشريع الأحكام بما يتناسب مع كل مرحلة ، فحين كان المسلمون في مكة قبل الهجرة ضعافا في العدة والعدد أمرهم الله بالصبر والاحتمال ، ولما هاجروا إلى المدينة وقامت دولتهم وقويت شوكتهم سمح الله لهم بالجهاد والقتال ، وقال سبحانه :

أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير* الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ( الحج 39-40 ) .

وقد قال بعض المفسرين إن هذا نسخ ، أي نسخت آية القتال الأمر بالصبر والاحتمال ولكن الزركشي في كتابه( البرهان في علوم القرآن ) جعله من باب التدريج في التشريع .

فقد ناسب حال الضعف والقلة الصبر والاحتمال كما ناسب حال القوة والكثرة ، الدعوة للجهاد والقتال . فكلما كان المسلمون ضعافا ناسبهم الصبر والمهادنة ، وكلما كانوا أقوياء ناسبهم الجهاد والمقاتلة .

وقال بعض المفسرين إن المراد من الآية الشريعة ، والمراد من نسخها على هذا تغييرها بشريعة أخرى تأتي بعدها .

أي ما نغير شريعة من الشرائع المعلومة للناس كالتوراة والإنجيل والزبور أو نجعلها منسية دارسة لا علم للناس بها ، كالشرائع المجهولة لنا النازلة على بعض من قصهم الله علينا من الأنبياء ، ومن لم يقصصهم علينا .

نأت بشريعة خير منها أو مثلها حسبما ينبغي لحال الأمة التي شرعت لها . ومن الباحثين من قال : المراد من الآية المعجزة ، ونسخها تغييرها ، ويكون معنى الآية : ولقد طلبوا منك يا محمد أن تأتيهم بالمعجزات التي جاءهم بها موسى وأنبياء بني إسرائيل ، وحسبنا أننا أيدناك بالقرآن ، وأننا إذا تركنا تأييد نبي متأخر بمعجزة كانت لنبي سابق أو أنسينا الناس أثر هذه المعجزة فإننا نأتي على يديه بخير منها أو مثلها في الدلالة على صدقه فالله على كل شيء قدير .

ما هو النسخ :

النسخ في اللغة الإزالة والإبطال ، يقال نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وأبطلته .

والنسخ شرعا : إزالة حكم شرعي سابق بخطاب ورد متأخر عنه لولا هذا الخطاب لاستمر الحكم على مشروعيته بمقتضى النص الذي تقرر به أولا .

وقد أنكرت النسخ طوائف من اليهود ، زاعمين أن ذلك من البداء ، وهو مستحيل على الله ، وقد كذبوا ، فإن النسخ هو النقل من حكم إلى حكم لضرب من المصلحة .

ولا خلاف بين العقلاء في أن شرائع الرسل قصد بها مصالح الخلق الدنيوية والأخروية .

وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه أولا والعدول عنه كقولك لشخص امض إلى فلان ثم يبدو لك نقض الرأي الأول فتقول لا تمض . على سبيل التناقض والتقلب في الرأي ، وهذا محال على الله تعالى ، لكمال علمه وحكمته .

ونسخ الحكم إما أن يكون بأيسر منه في العمل كما نسخت عدة المتوفى عنها زوجها من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام ، وإما بمساو له كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة ، وإما بأشق منه يكون ثوابه أكثر كما نسخ ترك القتال بإيجابه على المسلمين .

قال الأستاذ سيد قطب :

ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها . سواء كانت المناسبة هي مناسبة تحويل القبلة ، كما يدل سياق هذه الآيات وما بعدها ، أم كانت مناسبة أخرى من تعديل بعض الأمور والتشريعات والتكاليف ، التي كانت تتابع نمو الجماعة المسلمة وأحوالها المتطورة ، أم كانت خاصة بتعديل بعض الأحكام التي وردت في التوراة مع تصديق القرآن في عمومه للتوراة .

سواء كانت هذه ، أم هذه ، أم هي جميعا المناسبة التي اتخذها اليهود ذريعة للتشريك في صلب العقيدة…فإن القرآن يبين هنا بيانا حاسما في شأن النسخ والتعديل ، وفي القضاء على تلك الشبهات التي أثارتها اليهود ، على عادتها وخطتها في محاربة هذه العقيدة بشتى الأساليب .

ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير . الخطاب فيه لكل من لديه علم أو عقل ، والاستفهام للتقرير ، والمراد بهذا التقرير الاستشهاد بعلم المخاطب بأنه تعالى : على كل شيء قدير . على قدرته على النسخ ، والإتيان بما هو خير من المنسوخ أو مثله .