السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ} (40)

وقوله تعالى : { حتى إذا جاء أمرنا } أي : بإهلاكهم غاية لقوله ويصنع الفلك ، وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام . واختلف في التنور في قوله تعالى : { وفار التنور } فقال عكرمة والزهريّ : هو وجه الأرض . وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء فار على وجه الأرض فاركب السفينة . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : فار التنور وقت طلوع الفجر ونور الصبح . وقال الحسن ومجاهد والشعبيّ : أنه التنور الذي يخبز فيه . وهو قول أكثر المفسرين ورواية عطية وابن عباس : لأنه حمل الكلام على حقيقته ، ولفظ التنور حقيقته هو الموضع الذي يخبز فيه وهو قول أكثر المفسرين فوجب حمل اللفظ عليه ، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال : إنه تنور لنوح . ومنهم من قال : إنه كان لآدم عليه السلام . قال الحسن : كان تنوراً من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصار إلى نوح فقيل لنوح عليه السلام : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب السفينة أنت وأصحابك . واختلفوا أيضاً في موضعه فقال مجاهد والشعبيّ : كان في ناحية الكوفة ، وكان الشعبيّ يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة ، وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة ، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان فوران الماء منه علماً لنوح . وقال مقاتل : كان تنور آدم عليه السلام وكان بالشأم بموضع يقال له عين وردة . وروي عن ابن عباس أنه كان بالهند ، ومعنى فار نبع على قوّة وشدّة تشبيهاً بغليان القدر عند قوّة النار ، ولا شبهة أنّ التنور لا يفور .

والمراد : فار الماء من التنور فلما فار أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء الأول قوله تعالى : { قلنا احمل فيها } أي : السفينة { من كل زوجين اثنين } والزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى ، والتقدير من كل شيئين هما كذلك ، فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر وواحد أنثى . وفي القصة أنّ نوحاً عليه السلام قال : يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين ، فحشر الله تعالى إليه السباع والطير ، فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى ، فيحملهما في السفينة . وقرأ حفص بتنوين لام كل ، أي : واحمل من كل شيء زوجين اثنين : الذكر زوج والأنثى زوج . فإن قيل : ما الفائدة في قوله زوجين اثنين والزوجان لا يكونان إلا اثنين ؟ أجيب : بأنّ هذا على مثال قوله تعالى : { لا تتخذوا إلهين اثنين } [ النحل ، 51 ] . وقوله تعالى : { نفخة واحدة } [ الحاقة ، 13 ] والباقون بغير تنوين فهذا السؤال غير وارد .

النوع الثاني من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام أن يحملها في السفينة قوله تعالى : { وأهلك } وهم أبناؤه وزوجته . وقوله تعالى : { إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين وهو ابنه كنعان وأمّه راعلة وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهما بالهلاك بخلاف سام وحام ويافث وزوجاتهم ثلاثة وزوجته المسلمة .

فإن قيل : الإنسان أشرف من سائر الحيوانات فلم بدأ بالحيوان ؟ أجيب : بأنّ الإنسان عاقل فهو لعقله مضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به .

النوع الثالث : من الأشياء التي أمر الله تعالى نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة قوله تعالى : { ومن آمن } أي : واحمل معك من آمن معك من قومك ، واختلف في العدد الذي ذكره الله تعالى في قوله تعالى : { وما آمن معه إلا قليل } فقال قتادة وابن جريج : لم يكن معه في السفينة إلا ثمانية نفر نوح وامرأته المسلمة وثلاثة بنين له هم : سام وحام ويافث ونساؤهم . وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم نوح وبنوه الثلاثة وستة أناس ممن كان آمن به وأزواجهم جميعاً . وقال مجاهد كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة . وعن ابن عباس قال : كان في سفينة نوح ثمانون نصفهم رجال ونصفهم نساء . وقال الطبري : والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله تعالى : { وما آمن معه إلا قليل } فوصفهم بالقلة فلم يحد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله تعالى ، إذ لم يرد عدد في كتاب الله تعالى ، ولا في خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدّم نحو ذلك عن الرازي . وقال مقاتل : حمل نوح عليه السلام جميع الدواب والطير ليحملها . قال ابن عباس أوّل ما حمل نوح الدرّة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلما دخل الحمار أدخل صدره وتعلق إبليس بذنبه فلم تستقل رجلاه فجعل نوح يقول : ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ، كلمة زلت على لسانه ، فلما قالها خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان معه فقال نوح : ما أدخلك عليّ يا عدوّ الله ؟ قال : ما لك بد أن تحملني معك فكان معه على ظهر السفينة . هكذا نقله البغويّ . قال الرازيّ : وأمّا الذي يروى أنّ إبليس دخل السفينة فبعيد لأنّه من الجنّ وهو جسم ناري أو هوائي ، فكيف يؤثر الغرق فيه ، وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه ولم يرد في ذلك خبر صحيح فالأولى ترك الخوض في ذلك . قال البغويّ : وروي أنّ بعضهم قال : إنّ الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك ، فقال : إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا : احملنا فإنا نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك . فمن قرأ حين يخاف مضرتهما { سلام على نوح في العالمين } [ الصافات ، 79 ] لم يضراه . وقال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأمّا ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً .