السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

بين تعالى أن لا عزة إلا لله بقوله سبحانه : { من كان } أي : في وقت من الأوقات { يريد العزة } أي : الشرف والمنعة { فلله العزة جميعاً } أي : في الدنيا والآخرة ، والمعنى : فليطلبها عند الله ، فوضع قوله تعالى { فلله العزة جميعاً } موضعه استغناء به عنه لدلالته عليه ، لأن الشيء لا يطلب إلا من عند صاحبه ومالكه ، ونظيره قوله : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، يريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه ، وقال قتادة : من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله تعالى ومعناه : الدعاء إلى الطاعة من له العزة أي : فليطلب العزة من عند الله بطاعته ، كما يقال من كان يريد المال فالمال لفلان أي : فليطلبه من عنده .

ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله تعالى : { إليه } أي : لا إلى غيره { يصعد الكلم الطيب } قال المفسرون : هو قول لا إله إلا الله ، وقيل : هو قول الرجل سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وعن ابن مسعود قال : إذا حدثتكم حديثاً أنبأتكم بمصداقه من كتاب الله عز وجل : «ما من عبد مسلم يقول : خمس كلمات سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وتبارك الله إلا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يحيي بها وجه رب العالمين » ومصداقه من كتاب الله عز وجل قوله تعالى { إليه يصعد الكلم الطيب } وقيل : الكلم الطيب ذكر الله ، وعن قتادة إليه يصعد الكلم الطيب أي : يقبل الله الكلم الطيب ، وقيل : الكلم الطيب يتناول الذكر والدعاء وقراءة القرآن ، وعن الحاكم موقوفاً وعن الثعلبي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم قال : «هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمان فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل » .

{ والعمل الصالح يرفعه } أي : يقبله فصعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما ، أو المستكن في يرفعه لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقال سفيان بن عيينة : العمل الصالح هو الخالص يعني الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال لقوله تعالى { فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ( الكهف : 110 ) فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء .

تنبيه : صعود الكلم الطيب والعمل الصالح مجاز عن قبوله تعالى إياهما ، أو صعود الكتبة بصحفهما والمستكن في { يرفعه } لله تعالى ، وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة أو للكلم ، فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد أو للعمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه ، قال الرازي في «اللوامع » : «العلم لا يتم إلا بالعمل كما قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل » انتهى . وقد قيل :

لا ترض من رجل حلاوة قوله *** حتى يصدق ما يقول فعاله

فإذا وزنت مقاله بفعاله *** فتوازنا فإخاء ذاك جماله

وقال الحسن : الكلم الطيب ذكر الله تعالى ، والعمل الصالح أداء فرائضه فمن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه ردّ كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال ، فمن قال حسناً وعمل غير صالح ردّ الله تعالى عليه قوله ، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه الله .

ولما بيّن ما يحصل العزة من عليّ الهمة بين ما يكسب المذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة بقوله تعالى : { والذين يمكرون } أي : يعملون على وجه المكر أي : الستر ، المكرات : { السيئات } أي : مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث : حبسه وقتله وإجلاؤه ، كما قال تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك } الآية ( الأنفال : 30 ) . وقال الكلبي : معناه يعملون السيئات وقال مقاتل : يعني الشرك ، وقال مجاهد : هم أصحاب الرياء { لهم عذاب شديد } أي : لا توبة دونه بما يمكرون { ومَكْر أولئك } أي : البعداء من الفلاح { هو } أي : وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره { يبور } أي : يفسد ولا ينفذ إذ الأمور مقدرة فلا تتغير بسبب مكرهم .كما دل عليه بقوله تعالى : { والله خلقكم من تراب }