السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله } أي : الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال { رسوله } الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله { الرؤيا } التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّاً كبيراً . فحذف الجار وأوصل الفعل . كقوله تعالى : { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري «قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم : ما بال الناس قالوا : أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فخرجنا نرجف فوجدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده » ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى { بالحق } فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه يتعلق بصدق . ثانيها : أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض . ثالثها : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق . رابعها : له قسم وجوابه { لتدخلن } أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره { المسجد } أي : الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم { الحرام } أي : الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم . قال الزمخشري : وعلى تقديره قسماً إمّا أن يكون قسماً بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وأمّا أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل .

فإن قيل : ما وجه دخول { إن شاء الله } أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه :

أحدها : أنه تعالى ذكره تعليماً لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى { ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً 23 إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 24 ] .

ثانيها : أن يريد لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله . ولم يمت منكم أحد .

ثالثها : أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله .

رابعها : إنها حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقص عليهم . وقال أبو عبيدة : أن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله . كقوله تعالى { إن كنتم تعلمون } [ الجمعة : 9 ] .

خامسها : إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء مواقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت .

وقوله تعالى : { آمنين } حال من فاعل لتدخلن وكذا { محلقين رؤوسكم } أي : كلها { ومقصرين } أي : بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله { لتدخلن } فيه إشارة إلى الأوّل وقوله { محلقّين } { ومقصرين } إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرماً والمحرم لا يكون محلقاً أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر .

وقوله تعالى : { لا تخافون } أي : لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً ثالثة أمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله { لا تخافون } إذا جعل حالاً فإنها مقدّرة أيضاً فإن قيل : قوله تعالى : { لا تخافون } معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى : { آمنين } أجيب : بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم . فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام { فعلم } أي : الله في الصلح من المصلحة { ما لم تعلموا } من المصالح فإنّ الصلاح كان في الصلح وإنّ دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } [ الفتح : 25 ] الآية .

فإن قيل : الفاء في قوله تعالى : { فعلم } فاء التعقيب فقوله تعالى : { فعلم } وقع عقب ماذا أجيب : بأنه إن كان المراد من { فعلم } وقت الدخول فهو عقب صدق وإن كان المراد فعلم المصلحة فالمراد علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجدّدة { فجعل } أي : بسبب إحاطة علمه { من دون } أي : أدنى رتبة من { ذلك } أي : الدخول العظيم في هذا العام { فتحاً قريباً } يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض الموجب لإسلام ناس كثيرة تتقوون بهم فتكون تلك الكثرة والقوّة بسبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال فقتل القتلى ترفقاً بأهل حرم الله إكراماً لهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم .