السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (2)

{ إنما المؤمنون } أي : الكاملون في الإيمان { الذين إذا ذكر الله } أي : وعيده { وجلت } أي : خافت وخضعت ورقت { قلوبهم } أي : أنّ المؤمن إنما يكون مؤمناً كاملاً إذا كان خائفاً من الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } ( المعارج ، 27 ) وقوله تعالى : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } ( المؤمنون ، 2 ) .

فإن قيل : إنه تعالى قال هنا : { وجلت قلوبهم } وفي آية أخرى { وتطمئن قلوبهم بذكر الله } ( الرعد ، 28 ) فكيف الجمع بينهما ؟ أجيب : بأنه لا منافاة بينهما ؛ لأنّ الوجل هو خوف العقاب ، والاطمئنان إنما يكون من اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، وهذا مقام الخوف والرجاء ، وقد اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ريهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } ( الزمر ، 23 ) عند رجاء ثواب الله .

قال أهل التحقيق : الخوف على قسمين : خوف العقاب وهو خوف العصاة ، وخوف الجلال والعظمة ، وهو خوف الخواص ؛ لأنه تعالى غني بذاته عن كل الموجودات وما سواه من المخلوقات محتاجون إليه ، والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني هابه وخافه ، وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف ، وأما العصاة فيخافون عقابه ، والمؤمن إذا ذكر الله وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } أي : تصديقاً ويقيناً ؛ لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين :

الوجه الأوّل : وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي إن كل من كانت عنده الدلائل أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً ؛ لأنّ عند حصول كثرة الدلائل وقوّتها يزول الشك ويقوى اليقين ، فتكون معرفته بالله أقوى ، فيزداد إيمانه ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : ( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح ) .

الوجه الثاني : وهو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ، ولما كانت التكاليف متوالية في زمنه صلى الله عليه وسلم فكلما تجدد تكليف كانوا يزدادون تصديقاً وإقراراً ، ومن المعلوم أن من صدّق إنساناً في شيئين كان أكثر ممن يصدّقه في شيء واحد ، فقوله تعالى : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } معناه : أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد ، فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق .

فإن قيل : إن تلك الآيات لا توجب الزيادة وإنما الموجب هو سماعها أو معرفتها أجيب : بأن ذلك هو المراد من الآية ، واختلفوا هل الإيمان يقبل الزيادة والنقصان أو لا ؟ فالذين قالوا : إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا : لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، والذين قالوا : إنه مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل قالوا : يقبل الزيادة والنقصان ، واحتجوا بهذه الآية من وجهين :

الأوّل : أنّ قوله تعالى : { زادتهم إيماناً } يدل على أنّ الإيمان يقبل الزيادة ، ولو كان عبارة عن التصديق فقط لما قبل الزيادة ، وإذا قبل الزيادة فقد قبل النقص .

الوجه الثاني : أنه تعالى ذكر في هذه الآية أوصافاً متعدّدة من أحوال المؤمنين ، ثم قال بعد ذلك : { أولئك هم المؤمنون حقاً } وذلك يدل على أنّ تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) ففي الحديث دليل على أنّ للإيمان أدنى وأعلى ، فيكون قابلاً للزيادة والنقص ، وقال عمير بن حبيب : إن للإيمان زيادة ونقصاناً ، قيل له : فما زيادته وما نقصانه فقال : إذا ذكرنا الله وحمدناه ، فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إنّ للإيمان فرائض وشرائط وحدوداً وسنناً فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة ، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى : { وعلى ربهم يتوكلون } أي : يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره ، ولا يخافون سواه ؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقاً بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره ، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى ، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب ، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله ، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه ، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله ، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن .