إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلۡقُرۡءَانَ عِضِينَ} (91)

{ الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أي قسَموه إلى حق وباطل ، حيث قالوا عِناداً وعدواناً : بعضُه حقٌّ موافقٌ للتوراة والإنجيل ، وبعضُه باطلٌ مخالفٌ لهما ، أو اقتسموه لأنفسهم استهزاءً حيث كان يقول بعضُهم : سورةُ البقرة لي ، وبعضُهم : سورةُ آلِ عمران لي وهكذا ، أو قسموا ما قرأوا من كتبهم وحرّفوه فأقرّوا ببعضه وكذبوا ببعضه ، وحُمل توسيطُ قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } على إمداد ما هو المرادُ بالكلام من التسلية ، وعُقّب ذلك بأنه جلّ المقامُ عن التشبيه ، ولقد أوتيَ عليه الصلاة والسلام ما لم يؤتَ أحدٌ قبله ولا بعده مثلَه ، وقيل : إنه متعلق بقوله : { إني أَنَا النذير المبين } فإنه في قوة الأمرِ بالإنذار ، كأنه قيل : أنذِرْ قريشاً مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهودَ ، وهو ما جرى على بني قريظةَ والنضير بأن جُعل المتوقَّعُ كالواقع وقد وقع كذلك ، وأنت خبيرٌ بأن ما يُشبَّه به العذابُ المنذَرُ لا بد أن يكون محققَ الوقوعِ معلومَ الحالِ عند المنذَرين إذ به تتحققُ فائدةُ التشبيهِ ، وهي تأكيدُ الإنذار وتشديدُه ، وعذابُ بني قريظةَ والنضير مع عدم وقوعِه إذ ذاك لم يسبِقْ به وعدٌ ووعيد فهم منه في غفلة محضةٍ وشك مُريب ، وتنزيلُ المتوقَّع منزلةَ الواقع له موقعٌ جليلٌ من الإعجاز لكن إذا صادف مقاماً يقتضيه كما في قوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ونظائرِه . على أن تخصيصَ الاقتسام باليهود بمجرد اختصاصِ العذاب المذكور بهم مع شِرْكتهم للنصارى في الاقتسام المتفرِّع على الموافقة والمخالفة ، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشاملِ للكتابين بل تخصيصُ العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسامِ تخصيصٌ من غير مخصِّص ، وقد جُعل الموصولُ مفعولاً أولَ لأنذر أي أنذر المُعَضِّين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطيرَ ، مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشرَ الذين اقتسموا مداخلَ مكة أيام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضُهم : لا تغترّوا بالخارج منا فإنه ساحرٌ ، ويقول الآخر : كذابٌ ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر ، وقبله بآفات وفيه ، مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذابِ الذي شُبه به العذابُ المنذَرُ واقعاً ولا معلوماً للمنذَرين ولا موعودَ الوقوع ، أنه لا داعيَ إلى تخصيص وصفِ التعضِيةِ بهم وإخراجِ المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوةً لهم في ذلك ، فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرعٌ على وصفهم للقرآن بذلك ، وهل هو إلا نفسُ التعضيةِ ، ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذارِ على ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يُشبه به عذابُ غيرِهم ولا مخصوصاً بهم ، بل عامًّا لكلا الفريقين وغيرِهم مع أن بعضَ المنذَرين كالوليد بنِ المغيرةَ والعاصِ بن وائل والأسودِ بن المطلب قد هلكوا قبل مهلِك أكثرِ المقتسمين يوم بدر ، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى ، وقيل : إنه وصفٌ لمفعول النذيرِ أقيمَ مُقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر .

وفيه مع ما مر أن قوله تعالى : { كما أَنْزَلْنَا } صريحٌ في أنه من قول الله تعالى لا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام ، والاعتذارُ بأن ذلك من باب ما يقوله بعضُ خواصِّ المَلِك أُمرْنا بكذا وإن كان الآمرُ هو الملكَ حسبما سلف في قوله تعالى : { قدرنا إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } تعسُّفٌ لا يخفى ، وأن إعمالَ الوصفِ الموصوف مما لم يجوِّزْه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين ، أو المصير إلى جعله مفعولاً غيرَ صريح أي أنا النذيرُ المبين بعذاب مثلِ عذاب المقتسمين ، وقيل : المراد بالمقتسمين الرهطُ الذين تقاسموا على أن يبيّتوا صالحاً عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى ، وأنت تدري أن عذابَهم حيث كان متحققاً ومعلوماً للمنذرين حسبما نطق به القرآنُ العظيم صالحٌ لأن يقعَ مشبَّهاً به العذابُ المنذَر ، لكن الموصولَ المذكورَ عَقيبَه حيث لم يمكن كونُه صفةً للمقتسمين حينئذ ، فسواءٌ جعلناه مفعولاً أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة ، لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلّية الصلة والصفةِ للحكم الثابتِ للموصول والموصوف ، فلا يكون هناك وجهُ شبَهٍ يدور عليه تشبيهُ عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكِهم في السبب فإن المُعَضّين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك ، كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ، ولا علاقة بين السببين مفهوماً ولا وجوداً تصحّح وقوعَ أحدِهما في جانب والآخرِ في جانب ، واتفاقُ الفريقين على مطلق الاتفاقِ على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييتُ المدلولُ عليه بالتقاسم غيرُ مفيد إذ لا دِلالةَ لعنوان التعضيةِ على ذلك وإنما يدل عليه اقتسامُ المداخِلِ ، وجعلُ الموصولِ مبتدأً على أن خبرَه الجملةُ القسَميةُ لا يليق بجزالة التنزيلِ وجلالة شأنِه الجليل .

إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقربَ من الأقوال المذكورةِ أنه متعلِّق بالأول ، وأن المرادَ بالمقتسمين أهلُ الكتابين ، وأن الموصولَ مع صلته صفةٌ مبينة لكيفية اقتسامِهم ، ومحلُّ الكاف النصبُ على المصدرية ، وحديثُ جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظرِ الجليل ، والمعنى لقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآنَ العظيم إيتاءً مماثلاً لإنزال الكتابين على أهلهما ، وعدمُ التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرضَ بيانُ المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلَّقَيهما ، والعدولُ عن تطبيق ما في جانب المشبَّه به على ما في جانب المشبَّه بأن يقال : كما آتينا المقتسِمين حسبما وقع في قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب } الخ ، للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرِمة والامتنان وشتان بينه وبن الثاني .

ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبَّهاً به ، فإن ذلك إنما هو لمُسلَّميته عندهم وتقدمِ وجودُه على المشبه زماناً لا لمزيةٍ تعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية ، فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضةِ على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله أتمَّ وأكملَ مما فاض على النبي عليه الصلاة والسلام ، وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيصِ عليه في القرآن العظيم ، فليس في التشبيه شائبةُ إشعار بأفضلية المشبَّه به من المشبه ، فضلاً عن إيهام أفضليةِ ما تعلق به الأولُ مما تعلق به الثاني ، وإنما ذُكروا بعنوان الاقتسام إنكاراً لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكورِ ، وإيذاناً بأنه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانِهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراكِ في العلة والاتحادِ في الحقيقة التي هي مطلقُ الوحي ، وتوسيطُ قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ } الخ ، لكمال اتصالِه بما هو المقصودُ من بيان حالِ ما أوتيَ النبي عليه الصلاة والسلام ، ولقد بُيِّن أولاً علوُّ شأنِه ورفعة مكانِه بحيث يستوجب اغتباطَه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءَه به عما سواه ، ثم نُهي عن الالتفات إلى زَهرة الدنيا ، وعُبّر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنبئ عن وشك زوالِها عنهم ثم عن الحزَن بعدم إيمانِ المنهمكين فيها ، وأُمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاءِ بهم عن غيرهم وبإظهار قيامِه بمواجب الرسالة ومراسمِ النذارة حسبما فُصّل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ، ثم رُجِع إلى كيفية إيتائه على وجه أُدمج فيه ما يُزيح شُبَهَ المنكِرين ويستنزِلهم عن العِناد من بيان مشاركتِه لما لا ريب لهم في كونه وحياً صادقاً فتأمل ، والله عنده علم الكتاب ، هذا وقد قيل : المعنى وقل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً ، على أن المقتسِمين أهلُ الكتاب انتهى .

يريد أن ما في ( كما ) موصولةٌ ، والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقةُ وهي مع ما في حيزها في محل النصبِ على الحالية من مفعول قل ، أي قل هذا القولَ حالَ كونِه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقاً لذلك ، فالأنسبُ حينئذ حملُ الاقتسام على التحريف ليكون وصفُهم بذلك تعريضاً بما فعلوا من تحريفهم وكِتمانهم لنعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { عِضِينَ } جمعُ عِضة وهي الفِرقة ، أصلها عِضْوَةٌ ، فِعْلة من عضي الشاةَ تعضيةً إذا جعلها أعضاءَ ، وإنما جُمعت جمع السلامةِ جبراً للمحذوف كسنينَ وعِزينَ ، والتعبيرُ عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريقُ الأعضاء من ذي الروح المستلزمُ لإزالة حياتِه وإبطالِ اسمِه دون مطلق التجزئةِ والتفريق اللذَيْن ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيضُ من المِثليات ، للتنصيص على كمال قبحِ ما فعلوه بالقرآن العظيم ، وقيل : هي فِعلة من عضته إذا بهتُّه . وعن عكرِمةَ : العضة السحرُ بلسان قريشٍ ، فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء .