إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النحل مكية إلا { وإن عاقبتم } إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية .

{ أتى أَمْرُ الله } أي الساعةُ أو ما يعُمها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة ، عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإتيانِه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب ، وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع ، أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسبَّبات . وأياً ما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريعِ في قوله عز وجل : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه ، إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه ، والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ ، واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ ، لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين ، سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذابُ الموعود للكفرة خاصة ، أما الأولُ فلأنه يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه ، وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمُهما صيغةٌ واحدة ، والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ ، وما روي من أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } ، قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعُم أن القيامة قد قرُبت ، فأمسِكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائنٌ ، فلما تأخّرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } فأشفقوا وانتظروا قُربها ، فلما امتدت الأيامُ قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت { أتى أَمْرُ الله } فوثب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناسُ رؤوسَهم فلما نزل { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } اطمأنوا ، فليس فيه دِلالةٌ على عموم الخطاب كما قيل لا لما تُوهم من أن التصديرَ بالفاء يأباه ، فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققْتَه بل لأن مناطَ اطمئنانِهم إنما هو وقوفُهم ، على أن المرادَ بالإتيان هو الإتيانُ الادّعائي لا الحقيقيُّ الموجبُ لاستحالة الاستعجالِ المستلزِمةِ لامتناع النهي عنه ، لِما أن النهيَ عن الشيء يقتضي إمكانَه في الجملة ، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزمِ لإمكانه المقتضي لعدم وقوعِ المستعجَل بعدُ ، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجِل كائناً مَنْ كان بل فيه دَلالةٌ واضحة على عدم العمومِ لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعةُ ، وقد عرفت استحالةَ صدور استعجالِها عن المؤمنين ، نعم يجوز تخصيصُ الخطاب بهم على تقدير كونِ أمر الله عبارةً عن العذاب الموعودِ للكفرة خاصة ، لكن الذي يقضي به الإعجازُ التنزيليُّ أنه خاصٌّ بالكفرة كما ستقف عليه ، ولمّا كان استعجالُهم ذلك من نتائج إشراكِهم المستتبعِ لنسبة الله عز وجل إلى ما لا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير ، واعتقادِ أن أحداً يحجُزه عن إنجاز وعدِه وإمضاء وعيدِه ، وقد قالوا في تضاعيفه : إن صح مجيءُ العذاب فالأصنامُ تخلّصنا عنه بشفاعتها ، رُدَّ ذلك فقيل بطريق الاستئناف : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم ، أو عن أن يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه ، وصيغةُ الاستقبالِ للدلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه ، والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب ، وحكايةِ شنائعهم لغيرهم ، وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهيِّ عنه ، وقرئ على صيغة الخطاب .