إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب } إما موصولٌ بالمتقين ، ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط ، مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية ، وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً ، من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً ، لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً ، وذلك لأنها مشتملة على ما هو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات ، من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت ، الآية 45 ] وقوله عليه السلام : " الصلاةُ عمادُ الدين ، والزكاةُ قنطرةُ الإسلام " ، أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات .

وتخصيصُ ما ذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات ، أو النصبُ على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير «هم » ، وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسم الإشارة كما سيأتي بيانُه ، فالوقفُ على ( المتقين ) حينئذ وقفٌ تام ، لأنه وقف على مستقلٍ ، ما بعده أيضاً مستقل ، وأما على الوجه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه ، غيرُ تامَ لتعلق ما بعده به وتبعيّته له ، أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر ، وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أن المنصوبَ والمرفوعَ مدحاً وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورةً حيث لم يتبعاه في الإعراب ، وبذلك سُمّيا قطعاً لكنهما تابعان له حقيقة ، ألا ترى كيف التزموا حذفَ الفعل والمبتدأ في النصب والرفع رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورة متعلِّقٍ من متعلقات ما قبله وتنبيهاً على شدة الاتصال بينهما ، قال أبو علي : إذا ذُكرت صفاتٌ للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان ، أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء ، فإن تغيير الكلامِ المَسوقِ لمعنىً من المعاني وصَرْفَه عن سَننه المسلوكِ يُنبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ، ويستجلب مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب .

إن قيل : لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه ( أولئك على هدى ) في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة ، لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة ، ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين . وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه ، وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلة ، فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين ، وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام ، وفي الثانية مقتطعاً عنه ، وعُدَّ الوقفُ تامًّا ؟ قلنا : السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين ، لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه ، غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح ، نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى ، وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب اللفظ ، كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المُخبَر عنه فحقُّه أن يكون وصفاً له ، كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له ، حتى قالوا : إن الصفاتِ قبل العلم بها أخبارٌ ، والأخبارُ بعد العلم بها صفات .

وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على ما لا ينبئ عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبراً مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة ، جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً .

والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد ، يقال آمنتُه ، وبالنقل تعدى إلى اثنين ، يقال آمنَنيه غيري ، ثم استُعمل في التصديق ، لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق ، أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة ، واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف ، وقد يطلق على الوثوق ، فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة ، ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة ، أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون ، وكلا الوجهين حسنٌ هنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم ، ضرورةَ أنه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام ، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها ، وهل هو كافٍ في ذلك أو لا بد من انضمام الإقرار إليه للتمكن منه ؟ .

والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه ، فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام ، والثاني مذهبُ أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق ، فإنه جعلهما جزأين له ، خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر ، كما عند الإكراه ، وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور : اعتقادُ الحق ، والإقرارُ به ، والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج ، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج ، وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة .

وقرئ ( يُومنون ) بغير همزة ، و( الغيبُ ) إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } [ الزمر ، الآية 46 ] ، أو فعيل خُفّف كقَتْل في قتيل وهيْنٍ في هيّن ، وميْتٍ في ميِّت ، لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره . وأيًّا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقلِ غَيْبة كاملةً ، بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه ، وهو الذي أريد بقوله سبحانه : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام ، الآية 59 ] وقسم نُصب عليه دليل كالصانع وصفاتِه ، والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع ، واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء ، وهو المرادُ هاهنا ، فالباءُ صلةٌ للإيمان ، إما بتضمينه معنى الاعتراف ، أو بجعله مجازاً من الوثوق ، وهو واقعٌ موقعَ المفعول به ، وإما مصدرٌ على حاله كالغَيبة ، فالباءُ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الفاعل كما في قوله تعالى : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } [ الأنبياء ، الآية 49 ] وقوله تعالى : { لِيَعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف ، الآية 52 ] أي يؤمنون ملتبسين بالغيبة ، إما عن المؤمن به ، أي غائبين عن النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة ، لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه ، ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانَهم ، فقال رضي الله عنه : «إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بيِّناً لمن رآه ، والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب ، ثم تلا هذه الآية » . وإما عن الناس ، أي غائبين عن المؤمنين ، لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم .

وقيل : المرادُ بالغيب القلبُ ، لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فالباءُ حينئذٍ للآلة ، وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفسِ الفعلِ كما في قولهم فلانٌ يُعطي ويمنع ، أي يفعلون الإيمان ، وإما للاكتفاء بما سيجيء ، فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجب الإيمانُ به .

{ وَيُقِيمُونَ الصلاة } إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها ، وحفظِها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وآدابِها زيغٌ ، من إقامة العُودِ إذا قوّمه وعدّله . وقيل عن المواظبة عليها ، مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت ، وأقمتُها إذا جعلتُها نافقة ، فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه ، وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتورٍ ولا تَوانٍ ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد ، وقيل عن أدائها ، عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام ، كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبيح ، والأولُ هو الأظهر ، لأنه أشهرُ ، وإلى الحقيقة أقربُ ، والصلاةُ فَعْلةٌ ، من صلَّى إذا دعا ، كالزكاة من زكّى ، وإنما كُتبتا بالواو مراعاةَ للفظِ المفخّم ، وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء ، وقيل : أصلُ صلَّى حرَّك الصَّلَوَيْنِ ، وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين ، لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد .

{ وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } والرزقُ في اللغة العطاءُ ، ويطلق على الحظ المعطى ، نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ . وقيل : هو بالفتح مصدر ، وبالكسر اسم ، وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان .

والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا : الرزقُ لا يتناول الحرام ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم يُنفِقون من الحلال الصِّرْف ، فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح ، وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } [ يونس ، الآية 59 ] وأصحابنا جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق ، والذمَّ لتحريم ما لم يحرّم ، واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقال : يا رَسُول الله ، إنَّ الله [ قد ]{[12]} كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ ، فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي ، فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ ، من غيرِ فَاحِشَةٍ ، من أنه قال عليه السلام : « لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ ، ولا نُعْمَةَ [ عَيْنٍ ]{[13]} كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله ، والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً ، فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ » وبأنه لو لم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود ، الآية 6 ] والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ ، خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول ، والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبيل الخير ، فرضاً كان أو نفلاً ، ومن فسَّر [ ه ]{[14]} بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه والأصلَ فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها ، والجملة معطوفة على ما قبلها من الصلة ، وتقديمُ المفعول للاهتمام ، والمحافظةِ على رؤوس الآي ، وإدخال ( من ) التبعيضية عليه للكف عن التبذير .

هذا وقد جاز أن يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه السلام : « إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه » وإليه ذهب من قال : ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون .


[12]:لم ترد في الأصل.
[13]:لم ترد في الأصل.
[14]:ورد في الأصل "فسَّر" واقتضى المعنى إضافة الضمير العائد إلى الرزق.