إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحۡمَدُواْ بِمَا لَمۡ يَفۡعَلُواْ فَلَا تَحۡسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٖ مِّنَ ٱلۡعَذَابِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (188)

{ لاَ تَحْسَبَنَّ } الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يصلُح له { الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا } أي بما فعلوا كما في قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِياً } [ مريم ، الآية 61 ] ويدل عليه قراءة أُبيّ : يفرحون بما فعلوا ، وقرئ بما آتَوا بمعنى أعطَوا وبما أُوتوا أي بما أوتوه عن علم التوراة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم اليهودُ حرفوا التوراةَ وفرِحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل . روي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهودَ عن شيء مما في التوراة فكتموا الحقَّ وأخبروه بخلافه وأرَوْه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرِحوا بما فعلوا ، وقيل : فرِحوا بكِتمان النصوصِ الناطقةِ بنبوته عليه الصلاة والسلام ، وأحبوا أن يُحمَدوا بأنهم متبعون ملةَ إبراهيمَ عليه السلام . فالموصولُ عبارةٌ عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضِعَ ضميرهم ، والجملةُ مَسوقةٌ لبيان ما تستتبعُه أعمالُهم المحكيةُ من العقاب الأخرويِّ إثرَ بيانِ قباحتِها ، وقد أُدمج فيها بيانُ بعضٍ آخرَ من شنائعهم وهو إصرارُهم على ما هم عليه من القبائح وفرَحُهم بذلك ومحبتُهم لأن يوصَفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلةِ ، وقد نُظم ذلك في سلك الصلةِ التي حقُّها أن تكون معلومةَ الثبوتِ للموصول عند المخاطَبِ إيذاناً بشهرة اتصافِهم بذلك ، وقيل : هو قومٌ تخلّفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحةَ في ذلك واستحمدوا به ، وقيل : هم المنافقون كافةً وهو الأنسبُ بظاهر قوله تعالى : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } لشهرةِ أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمانِ وقلوبُهم مطمئنةٌ بالكفر ويستحمِدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألفِ منزلٍ ، وكانوا يُظهرون محبةَ المؤمنين وهم في الغاية القاصيةِ من العداوة ، فالموصولُ عبارةٌ عن طائفة معهودةٍ من المذكورين وغيرِهم ، فإن أكثرَ المنافقين كانوا من اليهود ، ولعل الأولى إجراءُ الموصولِ على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرحُ به فرحَ إعجابٍ ويوَدُّ أن يمدحَه الناسُ بما هو عارٍ منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً أولياً ، وأياً ما كان فهو مفعولٌ أولٌ لتحسبن ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيدٌ له والفاءُ زائدةٌ والمفعولُ الثاني قوله تعالى : { بِمَفَازَةٍ منَ العذاب } أي ملتبسين بنجاة منه ، على أن المفازةَ مصدرٌ ميميٌ ولا يضُر تأنيثُها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله : [ الطويل ]

فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبة *** عقابَك قد كانوا لنا بالمواردِ{[135]}

ولا سبيل إلى جعلها اسمَ مكانٍ على أن الجارَّ متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لها أي بمفازة كائنةٍ من العذاب لأنها ليست من العذاب ، وتقديرُ فعلٍ خاصَ ليصِحَّ به المعنى أي بمفازة مُنْجيةٍ من العذاب -مع كونه خلافَ الأصلِ- تعسفٌ مستغنىً عنه . وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطابَ شاملٌ للمؤمنين أيضاً ، وقرئ بياء الغَيبة وفتحِ الباءِ فيهما على أن الفعلَ له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحُسبان ، ومفعولاه كما ذكر ، وقرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعلَ للموصول ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لكونه عينَ الفاعلِ ، والثاني بمفازة أي لا يحسبَنّ الذين يفرحون أنفسَهم فائزين ، وقوله تعالى : { فَلا يحسبنّهم } تأكيدٌ للأول ، والفاءُ زائدةٌ كما مر ويجوز أن يُحملَ الفعلُ الأولُ على حذف المفعولين معاً اختصاراً لدِلالة مفعولي الثاني عليهما على عكس ما في قوله : [ الطويل ]

بأيِّ كتابٍ أو بأيةِ سنة *** ترى حبَّهم عاراً عليَّ وتحسَبُ{[136]}

حيث حُذف فيه مفعولا الثاني لدَلالة مفعولي الأولِ عليهما ، أو على أن الفعلَ الأولَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب ، ومفعولُه الأولُ الموصولُ والثاني محذوفٌ لدَلالة مفعولِ الفعلِ الثاني عليه ، والفعلُ الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصولِ والفاءُ للعطف لظهور تفرُّعِ حُسبانِهم على عدم حُسبانِه عليه السلام ومفعولاه الضميرُ المنصوبُ وقوله تعالى : { بِمَفَازَةٍ } ، وتصديرُ الوعيدِ بنهيهم عن الحسبان المذكورِ للتنبيه على بُطلان آرائِهم الركيكةِ وقطعِ أطماعِهم الفارغةِ حيث كانوا يزعُمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرةِ كما نجَوْا به من المؤاخذة الدنيويةِ وعليه كان مبني فرحِهم وأما نهيُه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكورِ لا لاحتمال وقوعِ الحُسبانِ من جهته عليه السلام { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بعد ما أُشير إلى عدم نجاتِهم من مطلق العذابِ حُقِّق أن لهم فرداً منه لا غايةَ له في المدة والشدة ، كما تلوحُ به الجملةُ الاسميةُ والتنكيرُ التفخيميُّ والوصفُ .


[135]:وهو بلا نسبة في شرح أبيات سيبويه 1/393 وشرح المفصّل 6/61 والكتاب 1/189 والشاهد فيه إعمال "رهبة" فنصبت مفعولا به، وهو قوله "عقابك" وقد ورد في المعجم المفصّل بلفظ "قد صاروا" محل "قد كانوا".
[136]:وهو للكميت في خزانة الأدب 9/137 والدرر 1/272، 2/253 وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/69 وشرح الأشموني ص 164 والشاهد فيه قوله: "وتحسب" حيث حذف المفعولين لدلالة سابق الكلام عليهما.