إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

{ سمّاعون لِلْكَذِبِ } خبرٌ آخرُ للمبتدأ المقدّر كُرِّر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده من قوله تعالى : { أكّالون لِلسُّحْتِ } وهو أيضاً خبرٌ آخرُ للمقدَّر واردٌ على طريقة الذم ، أو بناءً على أن المراد بالكذِب ما يفتعله الراشون عند الأكّالين ، والسُحْت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كلُّ ما لا يحِلُّ كسبُه ، وقيل : هو الحرام مطلقاً من سَحَتَه إذا استأصله ، سمي به لأنه مسحوتُ البركة ، والمراد به هاهنا إما الرِّشا التي كان يأخذها المحرِّفون على تحريفهم وسائرِ أحكامِهم الزائغة ، وهو المشهور ، أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليُقيموا على اليهودية كما قيل ، وإما مطلقُ الحرام المنتظِمِ لما ذُكر انتظاماً أولياً ، وقرئ ( للسُحُت ) بضم السين والحاء وبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام : «كلُّ لحمٍ أنبتَه السُّحْتُ فالنار أولى به » . { فَإِن جَاءوكَ } لما بيَّن تفاصيلَ أمورِهم الواهية وأحوالَهم المختلفةَ الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعيلهم حسبما أُمر به عليه الصلاة والسلام خوطب عليه الصلاة والسلام ببعض ما يُبتنى عليه من الأحكام بطريق التفريع ، والفاء فصيحة ، أي وإذا كان حالُهم كما شُرح فإن جاؤوك متحاكمين إليك فيما شجَرَ بينهم من الخصومات { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } غيرَ مبالٍ بهم ولا خائفٍ من جهتهم أصلاً ، وهذا كما ترى تخييرٌ له عليه الصلاة والسلام بين الأمرين ، فقيل : هو في أمرٍ خاصّ هو ما ذُكر من زنا المحصَن ، وقيل : في قتيل قُتل من اليهود في بني قُريظةَ والنضيرِ ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بنو قريظة : إخوانُنا بنو النضير ، أبونا واحد ودينُنا واحد ، وإذا قَتَلوا منا قتيلاً لم يرضَوْا بالقَوَد وأعطَوْنا سبعين وَسْقاً من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتلَ وأخذوا منا الضِّعفَ مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيلُ امرأةً قتلوا بها الرجلَ منا وبالرجل منهم الرجلين منا ، وبالعبدِ منهم الحرَّ منا ، فاقضِ بيننا . فجعل عليه الصلاة والسلام الدية سواءً ، وقيل : هو عام في جميع الحكومات ، ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المرويُّ عن عطاءٍ والنَخَعيِّ والشَعْبيِّ وقَتادةَ وأبي بكرٍ الأصمِّ وأبي مسلم ، وقائلٍ إنه منسوخ وهو قول ابنِ عباس والحسن ومجاهد وعِكْرِمة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يُنسخْ من المائدة إلا آيتان : قولُه تعالى : { لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله } [ المائدة ، الآية 2 ] نسخَها قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة ، الآية 5 ] وقوله تعالى : { فَإِن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } نسخَها قوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } [ المائدة ، الآية 49 ] وعليه مشايخُنا { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ } بيانٌ لحال الأمرين إثْرَ تخييرِه عليه الصلاة والسلام بينهما ، وتقديمُ حالِ الإعراض للمسارعة إلى بيانِ أن لا ضررَ فيه حيث كان مظِنةُ الضرر لِما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه عليه الصلاة والسلام إلا لطلبِ الأيسر والأهونِ عليهم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومةَ بينهم شق ذلك عليهم ، فتشتد عداوتُهم ومضارّتُهم له عليه الصلاة والسلام ، فأمَّنه الله عز وجل بقوله : { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } من الضرر فإن الله عاصمُك من الناس . { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } بالعدل الذي أُمرت به كما حكمت بالرجم { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } ومن ضرورته أن يحفَظَهم عن كل مكروهٍ ومحذور .