إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

{ وَكَم من قَرْيَةٍ أهلكناها } شروعٌ في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع دينِ الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم ، وكم خبريةٌ للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك : زيد ضربته ، والخبرُ هو الجملةُ بعدها ، ومن قرية تمييزٌ ، والضميرُ في أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر ، الآية 49 ] والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة ، الآية 6 ] أي أردنا إهلاكَها { فَجَاءهَا } أي فجاء أهلَها { بَأْسُنَا } أي عذابُنا { بَيَاتًا } مصدر بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } عطفٌ عليه أي وقائلين من القيلولة نصفَ النهار كقوم شعيب ، وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس فإنه غيرُ فصيح ، وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ ، ووصفُ الكلِّ بوصفي البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لاسيما القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم .