إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

{ قَالَ } استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدمِ سجود ، كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى حينئذ ؟ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة ، وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } أي أن تسجُد كما وقع في سورة ص ، و( لا ) مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليه كما في قوله تعالى : { لئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد ، الآية 29 ] منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود ، وقيل : الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن تسجد { إِذْ أَمَرْتُكَ } قيل : فيه دِلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور ، وفي سورة الحِجْر : { يا إبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين } وفي سورة ص : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } واختلافُ العبارات عند الحكايةِ يدل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدةٍ ثلاثَ معاصٍ مخالفةَ الأمرِ ومفارقةَ الجماعةِ والإباءِ عن الانتظام في سلك أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمَ عليه السلام ، وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها ، لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطنٍ على ما ذكر فيه اكتفاءً بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأن كلَّ واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه ، وقد تُركت حكايةُ التوبيخِ رأساً في سورة البقرة وسورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه . { قَالَ } استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية التوبيخِ كأنه قيل : فماذا قال اللعينُ عند ذلك ؟ فقيل : قال : { أَنَا خَيْرٌ منْهُ } متجانفاً{[255]} عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول : منعني كذا مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ لمنعه من السجود على زعمه ، ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ به ؟ كما ينبئ عنه ما في سورة الحجر من قوله : { لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال منْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر ، واخترع القولَ بالحُسن والقُبح العقليَّين ، وقولُه تعالى : { خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } تعليلٌ لما ادعاه من فضله ، ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهة المادةِ والعنصُر ، وزل عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص ، الآية 75 ] أي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي } [ الحجر ، الآية 29 ] وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بالسجود له عليه السلام حين ظهر لهم أنه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرض وأن له خواصَّ ليست لغيره ، وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ ، ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين ، والشياطينِ إلى النار باعتبار الجُزءِ الغالب .


[255]:تجانف عنه: عَدَل.