إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَٱلنَّـٰشِطَٰتِ نَشۡطٗا} (2)

{ والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً * والسابحات سَبْحاً * فالسابقات سَبْقاً * فالمدبرات أَمْراً } إقسامٌ من الله عزَّ وجَلَّ بطوائفِ الملائكةِ الذينَ ينزِعونَ الأرواحَ من الأجساد على الإطلاقِ كما قالَهُ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ ، أو أرواحَ الكفرةِ كما قالَهُ عليٌّ رضيَ الله عنْهُ وابنُ مسعودٍ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ ومسروقٌ وينشِطونَها أي يُخرجونَها من الأجسادِ من نشَطَ الدلوَ من البئرِ إذا أخرجَها ويسبحونَ في إخراجِها سبحَ الغواصِ الذي يُخرجُ من البحرِ ما يخرجُ فيسبقونَ بأرواحِ الكفرةِ إلى النارِ وبأرواحِ المؤمنينَ إلى الجنةِ فيدبرونَ أمرَ عقابِها وثوابِها بأنْ يهيئوهَا لإدراكِ ما أُعِدَّ لهَا منَ الآلامِ واللَّذاتِ والعطفُ معَ اتخاذِ الكلِّ بتنزيلِ التغايرِ العُنواني منزلةَ التغايرِ الذاتي كما في قولِه : [ المتقارب ]

إلى المَلِكِ القِرْمِ وَابنِ الهُمَام *** وَليثِ الكَتَائبِ فِي المُزدَحم{[816]}

للإشعارِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المعدودةِ من معظماتِ الأمورِ حقيقٌ بأن يكونَ على حيالِه مناطاً لاستحقاقِ موصوفِه للإجلالِ والإعظامِ بالإقسامِ بهِ من غيرِ انضمامِ الأوصافِ الأُخرِ إليهِ والفاءُ في الأخيرينِ للدلالةِ على ترتبِهما على ما قبلهُمَا بغيرِ مُهلةٍ كَمَا في قولِه : [ السريع ]

يا لهفَ زيّابةَ للحرثِ ال *** صائحِ فالغانمِ فالآئبِ{[817]}

وغَرْقاً مصدرٌ مؤكدٌ بحذف الزوائدِ أيْ إغراقاً في النزع حيثُ تنزعُها منْ أقاصِي الأجسادِ . قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنْهُ : تنزعُ روحَ الكافرِ من جسدِه من تحتِ كلِّ شعرةٍ ومن تحتِ الأظافيرِ وأصولِ القدمينِ ثم تُغرقها في جسدِه ثم تنزعُها حتَّى إذَا كادتْ تخرجُ تردها في جسدِه فهذا عملُها بالكفار ، وقيلَ : يَرى الكافرُ نفسَهُ في وقت النزعِ كأنها تغرقُ . وانتصابُ نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضاً على المصدريةِ ، وأما أمراً فمفعولٌ للمدبراتِ وتنكيرُهُ للتهويلِ والتفخيمِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بالسابحاتِ وما بعدَهَا طوائفُ من الملائكةِ يسبحونَ في مُضيهم أي يُسرعونَ فيهِ فيسبقونَ إلى مَا أُمروا بهِ من الأمورِ الدنيويةِ والأخرويةِ . والمُقسمُ عليهِ محذوفٌ تَعْويلاً على إشارةِ ما قبلَهُ من المقسمِ بهِ إليهِ ودلالةِ ما بعدَهُ من أحوالِ القيامةِ عليهِ وهو لتبعثنَّ فإنَّ الإقسامَ بمَنْ يتولَّى نزعَ الأرواحِ ويقومُ بتدبيرِ أُمورِها يلوحُ بكونِ المقسمِ عليهِ من قبيلِ تلكَ الأمورِ لا محالةَ وفيهِ مِنَ الجزالةِ ما لا يَخْفى . وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ إقساماً بالنجومِ التي تنزعُ من المشرقِ إلى المغربِ غرقاً في النزعِ بأن تقطعَ الفَلكَ حتَّى تنحطَّ في أقْصَى الغربِ وتنشطَ من برجٍ إلى برجٍ أي تخرجُ من نشطِ الثورِ إذَا خرجَ من بلدٍ إلى بلدٍ وتسبحُ في الفلكِ فيسبقُ بعضُها بعضاً فتدبرُ أمراً نيطَ بهَا كاختلاف الفصولِ وتقديرِ الأزمنةِ وتبينِ مواقيتِ العباداتِ وحيثُ كانتْ حركاتُها من المشرق إلى المغرب قسريةً وحركاتُها من برجٍ إلى برجٍ ملائمةً عُبِّرَ عنِ الأُولى بالنزعِ وعنِ الثانيةِ بالنشطِ . أو بأنفسِ الغُزاةِ أو أيديهِم التي تنزعُ القِسِيَّ بإغراقِ السهامِ وينشطونَ بالسهمِ للرميِ ويسبحونَ في البرِّ والبحرِ فيسبقونَ إلى حربِ العدوِّ فيدبرونَ أمرَها . أو بخيلِهم التي تنزعُ في أعنَّتِها نزعاً تغرقُ فيه الأعنةَ لطول أعناقِها لأنها عِرابٌ وتخرجُ منْ دارِ الإسلامِ إلى دارِ الحربِ وتسبحُ في جَريها لتسبقَ إلى الغايةِ فتدبرُ أمرَ الظفرِ والغلبةِ ، وإسنادُ التدبيرِ إليها لأنَّها من أسبابِه . هذا والذي يليقُ بشأنِ التنزيلِ هُو الأولُ .


[816]:وهو بلا نسبة في الإنصاف (2/469)؛ وخزانة الأدب (1/451)، (5/107)، (6/91)؛ وشرح قطر الندى وقد ورد في المعجم المفصل "الكتيبة" محل "الكتائب".
[817]:ورد في المعجم المفصل: "يا ويح زيّابة للحارث *** الصابح فالغانم فالآيب" وهو لابن زيابة في خزانة الأدب (5/107)، والدرر (6/16)، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص 147)؛ وشرح شواهد المغني (ص465) ومعجم الشعراء (ص208)؛ وبلا نسبة في خزانة الأدب (11/5)؛ ومغني اللبيب (ص163).