الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (54)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } الذين اتخذوا العجل . { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي ضررتم أنفسكم { بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } إلهاً ، فقالوا : فأي شيء نصنع وما الحيلة ؟ قال : { فَتُوبُواْ } فأرجعوا . { إِلَى بَارِئِكُمْ } أي خالقكم ، وكان أبو عمرو يختلس الهمزة الى الجزم في قوله : { بَارِئِكُمْ } و( يأمركم ) وينصركم طلباً للخفة كقول امرؤ القيس :

فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

وأنشد :

وإذا أعوججن قلت صاحب قوّم *** بالدوّ أمثال السفين العوم

قال : { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } ليقتل البريء المجرم . { ذَلِكُمْ } القتل . { خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } قال ابن جرير : فأبى الله عزّ وجلّ أن يقبل توبة بني إسرائيل إلاّ بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل .

وقال قتادة : [ جعلّ عقوبة ] عبدة العجل القتل ؛ لأنّهم إرتدّوا ، والكفر يبيح الدّم .

وقرأ قتادة : ( فأقيلوا أنفسكم ) من الإقالة أي استقيلوا العثرة بالتوبة ، فلما أهمّ موسى بالقتل قالوا : نصير لأمر الله تعالى فجلسوا بالأفنية مختبئين وأصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرّجل يرى ابنه وأباه وعمّه وقومه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله وقالوا : يا موسى كيف نفعل ؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً وقيل لهم من حلّ حبوته أو مدّ طرفه الى قاتله أو إتّقى بيد أو رجل فهو طعون مردود توبته ، فكانوا يقتلونهم الى المساء ، فلمّا كثر فيهم القتل دعا هارون وموسى وبكياً وجزعاً وتضرّعاً وقالا : يا ربّ هلكت بنو اسرائيل البقيّة البقيّة ، فكشف الله عزّ وجلّ السحاب وأمرهم أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفّوا عن القتل .

فتكشّفت عن ألوف من القتلى ، فاشتدّ ذلك على موسى ، فأوحى الله إليه : أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنّة ، وكان من قُتل منهم شهيداً ومن بقي منهم نكفّر عنه ذنوبه ، فذلك قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يعني ففعلتم بأمره فتاب عليكم وتجاوز عنكم . { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .