الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُواْ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (102)

{ وَآخَرُونَ } يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين { اعْتَرَفُواْ } أقرّوا بك وبربّهم { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً } وهو إقرارهم وتوبتهم { وَآخَرَ سَيِّئاً } أي بعمل سيّء وضع الواو موضع الياء فكما يُقال : إستوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم الجهاد { عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترجّ .

{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزلت هذه الآية في " قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا ، وقالوا : نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد والله لنوثقنّ أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا أو يعذبنا ، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بهم فرآهم فقال : مَن هؤلاء ؟ قالوا : تخلّفوا عنك فعاهدوا الله ألاّ يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وتعذرهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا أقسم بالله لا أُطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم ، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين " فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم فلما أُطلقوا قالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً "

فأنزل الله عزّ وجل : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية " .

واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قال : كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة ، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو ( منية ) : منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس ، وقال قتادة والضحاك : كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجدام وأوس ، كلّهم من الانصار .

وقال عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة ، وقال آخرون : نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه . فقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته ، وقد مضت القصة في سورة الأنفال . فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .

قال الزهري : نزلت في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال :والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ . فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه فأنزل الله تعالى { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } الآية فقيل له : قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال : والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّني ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحلّهُ بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال : " يجزيك يا أبا لبابة الثلث " .

قالوا جميعاً : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلث أموالهم وترك الاثنين لأن الله عزّ وجلّ قال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ولم يقل : أموالِهم ، فلذلك لم يأخذ كلها .

وقال الحسن وقتادة : هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا