القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل : يبدو عن أمر شديد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن أُسامة بن زيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : هو يوم حرب وشدّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، عن ابن عباس يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : عن أمر عظيم كقول الشاعر :
*** وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساقِ ***
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ولا يبقى مؤمن إلا سجد ، ويقسو ظهر الكافر فيكون عظما واحدا . وكان ابن عباس يقول : يكشف عن أمر عظيم ، إلا تسمع العرب تقول :
*** وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساق ***
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يقول : حين يكشف الأمر ، وتبدو الأعمال ، وكشفه : دخول الاَخرة وكشف الأمر عنه .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن ابن عباس ، قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَن ساقٍ هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة .
حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ وابن حميد ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : شدّة الأمر وجدّه قال ابن عباس : هي أشد ساعة في يوم القيامة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَوْم يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : شدّة الأمر ، قال ابن عباس : هي أوّل ساعة تكون في يوم القيامة غير أن في حديث الحارث قال : وقال ابن عباس : هي أشدّ ساعة تكون في يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران عن سفيان ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن جبير ، قال : عن شدّة الأمر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : عن أمر فظيع جليل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : يوم يكشف عن شدة الأمر .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وكان ابن عباس يقول : كان أهل الجاهلية يقولون : شمّرت الحرب عن ساق يعني إقبال الاَخرة وذهاب الدنيا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، قال : حدثنا أبو الزهراء ، عن عبد الله ، قال : «يتمثل الله للخلق يوم القيامة حتى يمرّ المسلمون ، قال : فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد الله لا نشرك به شيئا ، فينتهزهم مرّتين أو ثلاثا ، فيقول : هل تعرفون ربكم ؟ فيقولون : سبحانه إذا اعترف إلينا عرفناه ، قال : فعند ذلك يكشف عن ساق ، فلا يبقى مؤمن إلا خرّ لله ساجدا ، ويبقى المنافقون ظهورهم طَبَقٌ واحد ، كأنما فيها السفافيد ، فيقولون : ربنا ، فيقول : قد كنتم تدعون إلى السجود وأنتم سالمون » .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله ابن مسعود ، قال : «ينادي مناد يوم القيامة : أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم ، ثم صوّركم ، ثم رزقكم ، ثم توليتم غيره أن يولى كُلّ عبد منكم ما تولى ، فيقولون : بلى ، قال : فيمثل لكلّ قوم آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، فيتبعونها حتى توردهم النار ، ويبقى أهل الدعوة ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا تنتظرون ، ذهب الناس ؟ فيقولون : ننتظر أن يُنادي بنا ، فيجيء إليهم في صورة ، قال : فذكر منها ما شاء الله ، فيكشف عما شاء الله أن يكشف ، قال : فيخرّون سجدا إلا المنافقين ، فإنه يصير فقار أصلابهم عظما واحدا مثل صياصي البقر ، فيقال لهم : ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم » ثم ذكر قصة فيها طول .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا الأعمش ، عن المنهال عن قيس بن سكن ، قال : حدّث عبد الله وهو عند عمر يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ العَالمِينَ قال : «إذا كان يوم القيامة قال : يقوم الناس بين يدي ربّ العالمين أربعين عاما ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، حُفاة عُراة ، يلجمهم العرق ، ولا يكلمهم بشر أربعين عاما ، ثم ينادي مناد : يا أيها الناس أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ، ثم عبدتم غيره ، أن يوّلَى كلّ قوم ما تولوا ؟ قالوا : نعم ؟ قال : فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله قال : ويمثل لكل قوم ، يعني آلهتم ، فيتبعونها حتى تقذفهم في النار ، فيبقى المسلمون والمنافقون ، فيقال : ألا تذهبون فقد ذهب الناس ؟ فيقولون : حتى يأتينا ربنا ، قال : وتعرفونه ؟ فقالوا : إن اعترف لنا ، قال : فيتجلى فيخرّ من كان يعبده ساجدا ، قال : ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد . قال : فيذهب بهم فيساقون إلى النار ، فيقذف بهم ، ويدخل هؤلاء الجنة ، قال : فيستقبلون في الجنة بما يستقبلون به من الثواب والأزواج والحور العين ، لكلّ رجل منهم في الجنة كذا وكذا ، بين كل جنة كذا وكذا ، بين أدناها وأقصاها ألف سنة هو يرى أقصاها كما يرى أدناها قال : ويستقبله رجل حسن الهيئة إذا نظر إليه مُقبلاً حسب أنه ربه ، فيقول له : لا تفعل إنما أنا عبدك وقَهْرَمانك على ألف قرية قال : يقول عمر : يا كعب ألا تسمع ما يحدّث به عبد الله » ؟ .
حدثنا ابن جَبَلة ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، قال : حدثنا سليمان الأعمش ، عن المنهال ابن عمرو ، عن أبي عبيدة وقيس بن سكن ، قالا : قال عبد الله وهو يحدّث عمر ، قال : وجعل عمر يقول : ويحك يا كعب ، ألا تسمع ما يقول عبد الله ؟ «إذا حشر الناس على أرجلهم أربعين عاما شاخصة أبصارهم إلى السماء ، لا يكلمهم بشر ، والشمس على رؤوسهم حتى يلجمهم العرق ، كلّ برّ منهم وفاجر ، ثم ينادي منادٍ من السماء : يا أيها الناس أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وصوّركم ، ثم توليتم غيره ، أن يولي كلّ رجل منكم ما تولى ؟ فيقولون : بلى ثم ينادي مناد من السماء : يا أيها الناس ، فلتنطلق كلّ أمة إلى ما كانت تعبد ، قال : ويبسط لهم السراب ، قال : فيمثل لهم ما كانوا يعبدون ، قال : فينطلقون حتى يلجوا النار ، فيقال للمسلمين : ما يحبسكم ؟ فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : إن اعترف لنا عرفناه » .
قال : وثني أبو صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «حتى إن أحدهم ليلتفّ فيكشف عن ساق ، فيقعون سجودا ، قال : وتُدْمَج أصلاب المنافقين حتى تكون عظما واحدا ، كأنها صياصي البقر ، قال : فيقال لهم : ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم قال : فترفع طائفة منهم رؤوسهم إلى مثل الجبال من النور ، فيمرّون على الصراط كطرف العين ، ثم ترفع أخرى رؤوسهم إلى أمثال القصور ، فيمرّون على الصراط كمرّ الريح ، ثم يرفع آخرون بين أيديهم أمثال البيوت ، فيمرّون كمرّ الخيل ثم يرفع آخرون إلى نور دون ذلك ، فيشدّون شدّا وآخرون دون ذلك يمشون مشيا حتى يبقى آخر الناس رجل على أنملة رجله مثل السراج ، فيخرّ مرّة ، ويستقيم أخرى ، وتصيبه النار فتشعث منه حتى يخرج ، فيقول : ما أُعطي أحد ما أعطيت ، ولا يدري مما نجا ، غير أني وجدت مسها ، وإني وجدت حرّها » وذكر حديثا فيه طول اختصرت هذا منه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا لتلحق كلّ أمة بما كانت تعبد ، فلا يبقى أحدّ كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا حتى يتساقطوا في النار ، ويبقى من كان يعبد الله وحده من برّ وفاجر ، وغُبّرات أهل الكتاب ثم تعرض جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ، ثم تدعى اليهود ، فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : عزَيز ابن الله ، فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا فيقول : أفلا تردون فيذهبون حتى يتساقطوا في النار ، ثم تدعى النصارى ، فيقال : ماذا كنتم تعبدون ؟ فيقولون : المسيح ابن الله ، فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا اسقنا ، فيقول : أفلا تردون ، فيذهبون فيتساقطون في النار ، فيبقى من كان يعبد الله من برّ وفاجر قال : ثم يتبدّى الله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أيها الناس لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد ، وبقيتم أنتم فلا يكلمه يومئذٍ إلا الأنبياء ، فيقولون : فارقنا الناس في الدنيا ، ونحن كنا إلى صحبتهم فيها أحوج لحقت كلّ أمة بما كانت تعبد ، ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول : هل بينكم وبين الله آية تعرفونه بها ؟ فيقولون نعم ، فيكشف عن ساق ، فيخرّون سجدا أجمعون ، ولا يبقى أحد كان سجد في الدنيا سمعة ولا رياء ولا نفاقا ، إلا صار ظهره طبقا واحدا ، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه قال : ثم يرجع يرفع برّنا ومسيئنا ، وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعم أنت ربنا ثلاث مرّار » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وسعيد بن الليث ، عن الليث ، قال : حدثنا خالد ابن يزيد ، عن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يُنادِي مُنادِيةِ فَيَقُولُ : لِيَلْحَقْ كُل قَوْمٍ بِمَا كانُوا يَعْبُدُونَ فَيَذْهَبُ أصحَابُ الصّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ ، وأصحَابُ الأوْثانِ مَعَ أوْثانِهِم ، وأصحَابُ كُلّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ ، حتى يَبْقَى مَنْ كانَ يَعْبُدُ اللّهَ مِنْ بَرْ وَفاجِرٍ وَغُبّرَاتِ أهْل الكِتابِ ، ثُمّ يُؤْتي بِجَهَنّمْ تَعْرِضُ كأنّها سَرَابٌ » ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال «فإنّا نَنْتَظِرُ رَبّنا » فقال : إن كان قاله فيأتِيهم الجبار ، ثم حدثنا الحديث نحو حديث المسروقي .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يأْخُذُ اللّهُ للْمَظْلُومِ مِنَ الظّالِمِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ تَبعةٌ لأَحَدٍ عِنْدِ أحَدٍ جَعَلَ اللّهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عُزَيْزٍ ، فَنَتْبَعُهُ اليهُودُ ، وَجَعَلَ اللّهُ مَلَكا مِنَ المَلائِكَةِ على صُورَةِ عِيسَى فَتَتْبَعُهُ النّصَارَى ، ثُمّ نادَى مُنادٍ أسمَعَ الخَلائِقَ كُلّهُمْ ، فَقالَ : ألا لِيَلْحَقْ كُلّ قَوْمٍ بِآلَهَتِهِمْ ومَا كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله ، فَلا يَبْقَى أحَدٌ كانَ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللّهِ شيْئا إلا مُثّلَ لَهُ آلهَتُهُ بَينَ يَدَيْه ، ثُمّ قادَتْهُمْ إلى النّارِ حتى إذَا لَمْ يَبْقَ إلاّ المُؤْمِنُون فِيهِمُ المُنافِقُون قالَ اللّهُ جَلّ ثَناؤُهُ : أيّها النّاسُ ذَهَبَ النّاسُ ، ذَهَبَ النّاسُ ، الْحَقُوا بِآلِهَتِكُمْ ومَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، فَيَقُولُونَ : وَاللّهِ مالَنا إلَهٌ إلاّ اللّهُ ومَا كُنّا نَعْبُدُ إلَها غَيْرَه ، وَهُوَ اللّهُ ثَبّتَهُمْ ، ثُمّ يَقُولُ لَهُمُ الثّانِيَةَ مِثْلَ ذلكَ : الْحَقُوا بآلِهَتِكُمْ ومَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذلكَ ، فَيُقالُ : هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَينَ رَبّكُمْ مِنْ آيَةٍ تَعْرِفُونَها ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ ، فَيَتَجَلّى لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ ما يَعْرِفُونَهُ أنّه رَبّهُمْ فَيَخِرّونَ لَهُ سُجّدا على وُجُوهِهمْ وَيَقَعُ كُلّ مُنافِقٍ على قَفاهُ ، ويَجْعَلُ اللّهُ أصْلابَهُمْ كَصَياصِي البَقَرِ » .
وحدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو سعيد روح بن جناح ، عن مولى لعمر بن عبد العزيز ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : «عن نور عظيم ، يخرّون له سجدا » .
حدثني جعفر بن محمد البزْوَرِيّ ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله الله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : يكشف عن الغطاء ، قال : ويُدْعَونَ إلى السجود وهم سالمون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن أُسامة بن زيد ، عن عكرِمة ، في قوله يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال : هو يومُ كربٍ وشدّة .
وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : «يَوْمَ تَكْشِفُ عَنْ ساقٍ » بمعنى تكشف القيامة عن شدّة شديدة ، والعرب تقول : كشَف هذا الأمرُ عن ساق : إذا صار إلى شدّة ومنه قول الشاعر :
كَشَفَتْ لَهُمْ عَنْ ساقِها *** وَبَدَا مِنَ الشّرّ الصّرَاحُ
وقوله : وَيُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ فَلا يَسْتَطيعُونَ يقول : ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله تعالى فلا يطيقون ذلك .
يجوز أن يكون { يوم يُكشف } متعلقاً بقوله : { فليأتوا بشركائهم } [ القلم : 41 ] ، أي فليأتوا بالمزعومين يومَ القيامة ، وهذا من حُسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم .
ويجوز أن يكون استئنافاً متعلقاً بمحذوف تقديره : اذكُرْ يوم يُكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم .
وعلى كلا الوجهين في تعلق { يوم } فالمراد باليوم يوم القيامة .
والكشف عن ساق : مثَل لشدة الحال وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال : شمر عن ساعد الجد ، وأيضاً كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادةً ، فيقال : كشفت عن ساقها أو شَمَّرت عن ساقها ، أو أبْدت عن ساقها ، قال عبد الله بن قيس الرقيات :
كيف نوْمي على الفراش ولما *** تشملْ الشامَ غارةٌ شَعْواء
تُذهل الشيخ عن بنيه وتبـدي *** عن خِدَام العقيلة العذراء
وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك : « انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وأنهما لمشمّرتان أرى خَدَم سوقهمَا تنقلان القِرَب على متُونهما ثم تُفْرِغَانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها » الخ ، فإذا قالوا : كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساقه . وإذا قالوا : كشف الأمر عن ساق ، فقد مثلوه بالمرأة المروعة ، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها ، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم :
فتى الحرب عضّت به لحرب الحرب عضها *** وإن شمرت عن سَاقها الحرب شمَّرا
كشفتْ لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البَواح
وقرأ ابن عباس { يوم تَكشف } بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة ، وقريب من هذا قولهم : قامت الحرب على ساق .
والمعنى : يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروْع ، قال ابن عباس : يكشف عن ساق : عن كرب وشدة ، وهي أشد ساعة في يوم القيامة .
وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا ، فقال : « إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب » ، أما سمعتم قول الشاعر :
صبراً عَنَاقُ إنه لشِرْباقْ *** فقد سنّ لي قومُككِ ضربَ الأعناقْ{[434]}
وقال مجاهد : { يكشف عن ساق } : شدّة الأمر .
وجملة { ويُدْعون } ليس عائداً إلى المشركين مثل ضمير { إِنا بلوناهم } [ القلم : 17 ] إذ لا يساعد قوله : { وقد كانوا يدعون إلى السجود } فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يُدْعَون إلى السجود . فالوجه أن يكون عائداً إلى غير مذكور ، أي ويُدعَى مدعوون فيكون تعريضاً بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخُلص عن غيرهم تَميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم ، قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود : فمن كان يعبد الله مخلصاً يخِرُّ ساجداً له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنَّ في ظهورهم السفافيد اه .
فيكون قوله تعالى : { ويدعون إلى السجود } إدماجاً لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم .
وفي « صحيح مسلم » من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلاّ جعل الله ظهره طبقَة واحدة كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه " الحديث ، فيصلح ذلك تفسيراً لهذه الآية .
وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا : يكشِف الله عن ساقه ، أي عن مثل الرِجْل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه ، على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عن ساقِ } قال يكشف عن نور عظيم يَخرون له سجداً .
ورُويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها .
و { السجود } الذي يُدعون إليه : سجودُ الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف .
وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة .
والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله تعالى : { يَوم يدعو الداعي إلى شيء نكر إلى قوله : { مهطعين إلى الداعي } [ القمر : 68 ] ، أو يدعو بعضهم بعضاً بإلهام من الله تعالى ، وهو نظير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي « فيقول بعضهم لبعض : لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يريحنا من موقفنا هذا » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ"؛ قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد...
حين يكشف الأمر، وتبدو الأعمال، وكشفه: دخول الآخرة وكشف الأمر عنه...
وقال ابن عباس: هي أشدّ ساعة تكون في يوم القيامة.
" وَيُدْعَوْنَ إلى السّجُودِ فَلا يَسْتَطيعُونَ" يقول: ويدعوهم الكشف عن الساق إلى السجود لله تعالى فلا يطيقون ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يوم يكشف عن ساق} أي يكشف عن موضع الوعيد بالشدائد والأهوال. والساق الشدة، وسميت الساق ساقا لأن الناس شدتهم في سوقهم؛ إذ بها يحملون الأحمال، فكنى بالساق عن الشدة.
وقيل أيضا: إنهم كانوا إذا ابتلوا بشدة وبلاء كشفوا عن سوقهم، فكنّى بذكره عن الشدة، لا أن يراد بذكر الساق تحقيق الساق، والله أعلم.
{ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} يحتمل أن يكون هذا على دعاء الحال، ويحتمل أن يكون على دعاء الأمر.
فأما دعاء الحال فهو أن من عادات الخلق أنه إذا اشتد بهم الأمر، وضاق، فزعوا إلى السجود. فجائز أن يكون ما حل بهم من الأحوال والشدائد يدعوهم إلى السجود، فيهمّون بذلك، فلا يستطيعون، فيكون قوله: {ويدعون إلى السجود} أي يدعوهم الحال إلى السجود فهذا دعاء الحال.
وجائز أن يؤمروا بالسجود، ويمتحنوا به...
ثم الأمر بالسجود يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حقيقة الفعل. ويحتمل أن يكون على الاستسلام والخضوع؛ إذ السجود في الحقيقة، هو الخضوع والاستسلام.
وقوله تعالى: {فلا يستطيعون} للأشغال التي حلت بهم والأفزاع التي ابتلوا بها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى أن للمتقين عنده جنات النعيم، بين متى ذلك كائن وواقع، فقال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} يعني: يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء والامتحان والأمور العظام. وقد قال البخاري هاهنا: حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يَكشِفُ رَبّنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا". وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نفى جميع شبههم التي يمكن أن يتشبثوا بها مع البيان لقدرته على ما يريد من تفتيق الأدلة وتشقيق البراهين الدال على تمام العلم اللازم منه كمال القدرة فأوصلهم من وضوح الأمر إلى حد لم يبق معه إلا العناد، أتبع ذلك تهديدهم بما يثبت ذلك قدرته عليه من يوم الفصل ومعاملتهم فيه بالعدل فقال: {يوم} يجوز أن يكون بياناً ليوم القيامة، وبنى لإضافته إلى الجملة وأن يكون ظرفاً ليأتوا، أو منصوباً بما أخذ من معنى الكلام من نحو 115: سيعلمون ما يلقون من غب هذه المعاملات وإن نالوا في هذه الدار جميع اللذات، في جميع اليوم الذي {يكشف} أي يحصل الكشف فيه، وبني للمفعول لأن المخيف وقوع 116 الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمور وخروجها عن حد الطوق، لا كونه من معين، مع أن من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه {عن ساق} أي يشتد فيه الأمر غاية الاشتداد لأن من اشتد عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهن غير محتشمات هرباً، فهو كناية عن هذا ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير رضي الله عنه وغيرهما، وعن انكشاف جميع الحقائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه وتركت السامع لها في مثل ضوء النهار...ولما كان هذا الكشف الذي كشف لهم المعاني في هذا القرآن إنما هو لأجل العبادة التي هي الخضوع الذي يعبر عنه بالسجود وهو آيتها وأمارة ما اشتمل عليه الباطن منها وعلامتها فيأتونها وهم قادرون عليها، ذكرهم يوماً يريدونها فيه فلا يتأتى لهم تنديماً لهم وزيادة تحسير وإظهار تظليل وتخسير لأن ظهورهم وأعضاءهم تكون طبقاً واحداً لا تنثني، فكلما أرادوا أن يسجدوا انقلبوا على أقفائهم، فقال بانياً للمفعول دلالة على إرادتهم للانقياد ورغبتهم فيه من أي داع كان، وهو دال على أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول كل من الفريقين داره و {يدعون} أي من داعي الملك الديان {إلى السجود} توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً فيريدونه ليضروا أنفسهم مما يرون من المخاوف {فلا} أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون} أي لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم على أن تطوع لهم أعضاؤهم بما تفهمه هذه الصيغة من أن الإنسان منهم إذا أراد الفعل وعالجه بقوة فلم يطقه فإن ظهورهم تكون على حالة لا تنثني معها بل كان فيها السفافيد فيكون لهم في ذلك أشد ندم لتركهم إياه في الدنيا وهم يقدرون عليه وهو إذ ذاك نافع لهم ومعالجتهم فعله أشد معالجة وهم غير قادرين عليه وهو غير نافع لهم وإذا عجزوا مع المعالجة كانوا بدونها أعجز، وذلك أنه يبعث المرء على ما مات عليه ويحشر على ما بعث عليه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين. وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن. واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم.
والكشف عن الساق كناية -في تعبيرات اللغة العربية المأثورة- عن الشدة والكرب. فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق.. ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون: (مهطعين مقنعي رؤوسهم) وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف..