القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ بَلَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : أو لم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الله خلقه من بعد وفاتهم ، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلائهم ، القائلون لاَبائهم وأمهاتهم أفَ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلَت القرون من قبلي فلم يبعثوا بأبصار قلوبهم ، فيروا ويعلموا أن الله الذي خلق السموات السبع والأرض ، فابتدعهنّ من غير شيء ، ولم يعي بإنشائهنّ ، فيعجز عن اختراعهنّ وإحداثهنّ بِقادِرٍ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى فيخرجهم من بعد بلائهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم .
واختلف أهل العربية في وجه دخول الباء في قوله : بِقادِرٍ فقال بعض نحويي البصرة : هذه الباء كالباء في قوله : كَفَى باللّهِ وهو مثل تَنْبُتُ بالدّهْنِ وقال بعض نحويي الكوفة : دخلت هذه الباء للمَ قال : والعرب تدخلها مع الجحود إذا كانت رافعة لما قبلها ، وتدخلها إذا وقع عليها فعل يحتاج إلى اسمين مثل قولك : ما أظنك بقائم ، وما أظنّ أنك بقائم ، وما كنت بقائم ، فإذا خلعت الباء نصبت الذي كانت تعمل فيه ، بما تعمل فيه من الفعل ، قال : ولو ألقيت الباء من قادر في هذا الموضع رفع ، لأنه خبر لأن ، قال : وأنشدني بعضهم :
فَمَا رَجَعَتْ بخائِبَةٍ رِكابٌ *** حَكِيمُ بنُ المُسيّبِ مُنْتَهاها
فأدخل الباء في فعل لو ألقيت منه نصب بالفعل لا بالباء ، يقاس على هذا ما أشبهه .
وقال بعض من أنكر قول البصريّ الذي ذكرنا قوله : هذه الباء دخلت للجحد ، لأن المجحود في المعنى وإن كان قد حال بينهما بأنّ «أوَ لَمْ يَرَوْا أنّ اللّهَ قادِرٌ على أنْ يُحْيِي المَوْتَى » قال : فأنّ اسم يَرَوْا وما بعدها في صلتها ، ولا تدخل فيه الباء ، ولكن معناه جحد ، فدخلت للمعنى .
وحُكي عن البصريّ أنه كان يأبى إدخال إلاّ ، وأن النحويين من أهل الكوفة يجيزونه ، ويقولون : ما ظننت أن زيدا إلا قائما ، وما ظننت أن زيدا بعالم . وينشد :
وَلَسْتُ بِحالِفٍ لَوَلَدْتُ مِنْهُمْ *** عَلى عَمّيّةٍ إلاّ زِيادا
قال : فأدخل إلا بعد جواب اليمين ، قال : فأما «كَفَى بِاللّهِ » ، فهذه لم تدخل إلا لمعنى صحيح ، وهي للتعجّب ، كما تقول لظَرُفَ بزيد . قال : وأما تَنْبُتُ بالدهن فأجمعوا على أنها صلة . وأشبه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : دخلت الباء في قوله بقادِرٍ للجَحْد ، لما ذكرنا لقائلي ذلك من العِلل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : بِقادِرٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار ، عن أبي إسحاق والجَحْدِريّ والأعرج بِقادِرٍ وهي الصحيحة عندنا لإجماع قرّاء الأمصار عليها . وأما الاَخرون الذين ذكرتهم فإنهم فيما ذُكر عنهم كانوا يقرأون ذلك «يقدر » بالياء . وقد ذُكر أنه في قراءة عبد الله بن مسعود «أنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَواتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ » بغير باء ، ففي ذلك حجة لمن قرأه «بقادِرٍ » بالباء والألف . وقوله : بَلى إنّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : بلى ، يقدر الذي خلق السموات والأرض على إحياء الموتى : أي الذي خلق ذلك على كلّ شيء شاء خلقه ، وأراد فعله ، ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده ، ولا يُعييه شيء أراد فعله ، فيعييه إنشاء الخلق بعد الفناء ، لأن من عجز عن ذلك فضعيف ، فلا ينبغي أن يكون إلها من كان عما أراد ضعيفا .
عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما أتَعِدَانِني أن أُخرج وقد خلت القرون من قبلي } إلى قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 17 ، 18 ] فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرّأهم على إحالة البعث ، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الأحقاف : 3 ] الآية ويتصل بقوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما أتِعَدَانني أن أخرج } إلى قوله : { أساطير الأولين } [ الأحقاف : 17 ] .
والواو عاطفة جملة الاستفهام ، وهو استفهام إنكاري ، والرؤية عِلمية . واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة ، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم ، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات .
ووقعت { أنّ } مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي { يروا } . ودخلت الباء الزائدة على خبر { أنّ } وهو مثبت وموكَّد ، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي ، لأن { أن } وقعت في خبر المنفي وهو { أولم يروا } .
ووقع { بلى } جواباً عن الاستفهام الإنكاري . ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي ، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب ( لم ) فيصير نفي النفي إثباتاً ، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف ( نعم ) دون { بلى } ، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به ، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام . وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطَى جميع أحكامه .
ومحل التعجيب هو خبر { أنّ } وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه . ووقوع الباء في خبر { أنّ } وهو { بقادر } باعتبار أنه في حيّز النفي لأن العامل فيه وهو حرف { أنّ } وقع في موضع مفعولي فِعل { يروا } الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله ، فقرن بالباء لأجل ذلك ، وفي « الكشاف » « قال الزجاج لو قلت : ما ظننت أن زيداً بقائم جاز ، كأنه قيل : أليس الله بقادر » اهـ . وقال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله : { وكفى بالله شهيداً } [ النساء : 79 ] يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور .
وأما موقع الجواب بحرف { بلى } فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غيرُ قادر على أن يحيي الموتى ، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى ، فأجيب بقوله : { بلى } تعليماً للمسلمين وتلقيناً لما يجيبونهم به .
وحرف { بلى } لما كان جواباً كان قائماً مقام جملة تقديرها : هو قادر على أن يحيي الموتى .
وجملة { ولم يَعْيَ بخلقهن } عطف على جملة { الذي خلق السماوات والأرض } . وقوله : { لم يعييَ } مضارع عَيِيَ من باب رضي ، ومصدره العِيّ بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام ، ومنه العيّ في الكلام ، أي عسر الإبَانِة . وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها ، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه .
وكثير من أيمة اللغة يرون أن العِيّ يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة . وعن الكسائي والأصمعي : العِيُّ خاص بالعجز في الحيلة والرأي . وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه ، وفعله أعيا ، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب « القاموس » .
وظاهر الأساس : أن أعيا لا يكون إلا متعدياً ، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث .
وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع . قلت : وهو راجع إلى تنازع العاملين .
وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا { ولم يَعْي } دالاً على سَعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به . وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين ، لأنهم لم ينكروا ذلك ، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحِكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات . وعليه أيضاً تكون تعدية فعل { يَعْيَ } بالباء متعينة .
وقرأ الجمهور { بقادر } بالموحدة بصيغة اسم الفاعل . وقرأه يعقوب { يقدر } بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة ، وتكون جملة { يقدر } في محل خبر { أنَّ } .
وجملة { إنه على كل شيء قدير } تذييل لجملة { بلى } لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض . وتأكيد الكلام بحرف ( أنَّ ) لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى ، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء .
ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف { قادر } ، وفي القدرة على كل شيء بوصف { قدير } الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف { قادر } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.